الفصل الأول: الفائدة في التحليل النقدي التقليدي و المعاصر.
تمهيـد: كان لعوامل النهضة التي عرفتها أوروبا في القرن السادس عشر، بعد انتكاسة رجال الدين وتقلص دور الكنيسة ،اكبر الأكثر على ظهور أولى المدارس الفكرية الاقتصادية كالتجاريين والطبيعيين.
إلا أن ما عرفته أوروبا في القرن الثامن عشر(ق18) من أحداث تاريخية واجتماعية وعلمية وفكرية، أدى إلى بروز فكر اقتصادي كان ولا يزال محل إعجاب وتقدير من قبل الكثير من المختصين والمفكرين والباحثين.
وفي خضم التراكمات التاريخية والمعرفية، والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية ، ظهرت المدرسة التقليدية في إنجلترا في أواخر القرن(18) ، حيث وضع أصولها الفكرية وقوانينها الاقتصادية، آدم سميث، واسهم في تطورها، مالتوس وريكاردو وميل وساي ،وغيرهم من رواد المدرسة نيوكلاسيكية ،وخاصة مانجر وبافريك ، فيزر، مارشال ، روبنسن و بيجو … .
قبل البدء في تناول دراسة هذا الفصل يجب أن نحدد أولا الأساس الذي سوف يتم عرض النظريات النقدية و مضمون سعر الفائدة .
في هذا المجال نجد أن هناك العديد من التقسيمات لعرض هذه النظريات(1) ،فهناك من يتبع التسلسل التاريخي لظهورها، واتجاه آخر -وهو المتبع في معظم الدراسات النظرية- قسم النظرية إلى: النظرية النقدية الكلاسيكية ، النظرية النقدية الحديثة(كينز)، والنظرية النقدية المعاصرة(فريدمان)، واتجاه ثالث قسمها بحسب فرضيات وأسس بناء النظرية ، بالإضافة الى تقسيمات اخرى أقل أهمية.
وإن كانت التقسيمات السابقة هي تقسيمات موضوعية تعتمد على المفهوم الموضوعي للنظرية فإن في مجال عرضنا لم نبتعد كثيرا عن المفاهيم السابقة، ولدوافع البحث والدراسة والربط بين النظرية النقدية وموضوع سعر الفائدة ،فإننا سنتناول في الفصل الأول الخاص بالتحليل النقدي الرأسمالي من خلال:
-النظرية التقليدية(الفكر الكلاسيكي والنيوكلاسيكي).
-نظرية كمية النقود وطالب حائزي الثروة(فكر فريدمان).
ــــــــــــــــ
1- راجع تفاصيل هذه الإشكالية كل من:
–رمزي زكي ، مشكل التضخم في مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1980.
-كامل فهمي بشاي، دور الجهاز المصرفي في التوازن المالي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1981.
-فيصل محمد فكري، سعر الفائدة كأداة من أدوات السياسة النقدية، بدون دار نشر سنة1993 ص174-179.
على أن نعالج في الفصل الثاني نظرية تفضيل السيولة(فكر كينز) وأتباعه(الكينزيين الجدد) ،على اعتبار أن هناك تباين بين التحليل النقدي الكينزي والتحليل النقدي التقليدي والمعاصر في بناء النظرية النقدية و تحليل طبيعة و مفهوم سعر الفائدة .
ولتحليل سعر الفائدة عند التقليديين و النقديين نرى ضرورة معالجة موضوع الفصل ضمن أربع مباحث.
البحث الأول نخصصـه للنظـرية النقـدية التقليدية، فنتعـرض لأهم الافتراضات التي تقوم عليها هـذه النظرية،و بعـد ذلك نتناول بالتحليل معادلـة التبادل "لفيشر"، ومعادلة الأرصـدة النقدية المتاحة (نظرية كمبريدج).
أما المبحث الثاني، فسنتناول نظرية سعر الفائدة من خلال استعراضنا لعدة مداخل:
-مدخل التجاريين.
-مدخل بافريك.
-مدخل ويكسال.
-مدخل فيشر.
المبحث الثالث ،نتعرض فيه لمفهوم سعر الفائدة ، وكيفية تحديده وطبيعة دوره.
و في المبحث الرابع ، سنتناول النظرية النقدية المعاصرة -نظرية "فريدمان" – و من ثم نظرية سعر الفائدة ومدى أهميتها في التحليل النقدي والاقتصادي .
المبحث الأول: النظرية النقدية التقليدية(1):
إن النظرية النقدية تهدف إلى تفسير العوامل المحددة لقيمة النقد في أي لحظة من الزمن ، وتحليل تلك التغييرات التي تطرأ عليها خلال فترات من الزمن(2).
تعتبر النظرية التقليدية بمثابة خلاصة للفكر والتحليل التقليدي للظواهر النقدية والحقيقية في الاقتصاد.
ـــــــــــــــ
1_نقصد بالنظرية النقدية التقليدية، آراء و أفكار المدرسة الكلاسيكية،وأراء وأفكار المدرسة نيوكلاسيكية.
2_راجع في تفاصيل هذا الموضوع:
-صحبي تادرس قريصة ،النقود والبنوك، دار النهضة العربية، بيروت1984،ص175_ص180.
-سهير محمود معتوق: الاتجاهات الحديثة في التحليل النقدي، الدار المصرية اللبنانية، ط1، 1988، ص17_ص25.
- ناظم نوري الشمري، النقود و المصارف ، المكتبة الوطنية ، بغداد ، 1995، ص175 إلىص188.
المطلب الأول:أسس وافتراضات النظرية النقدية التقليدية(1) .
إن النظرية التقليدية تعبر عن مجموعة من الآراء والأفكار المفسرة والمحللة لعمل النظام الرأسمالي الحر،وقد ظهرت في القرن الثامن عشر، أين ساد مبدأ حياد النقود ( النقود عبارة عن عربة لنقل القيم )، وسيطر على النشاط الاقتصادي قانون "ساي" للأسواق(2)، والذي يرى ضرورة أن كل عرض يخلق الطلـب الخاص به، فالإنتاج يخلـق معـه قوته الشرائية، وبتعبير نقدي كل إنتاج يخلق إنفاقا مساويا لـه. وان زيادة أو انخفاض العرض عن الطلب، سرعان ما يزول بحكم فعالية آلية السـوق أو جهاز الأسعار،وان الاقتصاد يقوم على أساس المنافسة الكاملة بين المشروعات ،والتوازن يحدث عند حالة التشغيل الكامل، ومن ثم فان حالة الاقتصاد تسير دائما في اتجاه التوازن التلقائي، ومن ثم اعتبر الاقتصاديون التقليديون أن النمو الاقتصادي يتم تلقائيا دون ما حاجة إلى تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وهو ما دفعهم إلى عدم تصور إمكانية حدوث بطالة على مستوى الاقتصاد الوطني.
ووفقا للتحليل الاقتصادي التقليدي، قامت النظرية الكمية للنقود في بناء معادلة التبادل "لفيشر" ومعادلة الأرصدة النقدية "لمارشال" على الافتراضات التالية.
1_ثبات حجم المعاملات: تقـوم النظرية الكمية للتقليديين في تحليلها للواقع الاقتصادي، وفي بناء النظرية النقـدية على فـرضية أن حجم المعاملات ومستوى النشاط الاقتصادي يتم تحديـده بعوامل موضوعية، وان النقـود ليس لها أي تأثير في تحقيق التـوازن الاقتصادي ،باعتبارها وسيط للمبادلة، وبذلك فهي مجرد حجاب يخفي الحقيقة، لان المنتجات من السلع والخـدمات تبادل بالمنتجات، والنقـود وسيلة لذلك، إذا فالنقود دورها محايد في الاقتصاد. وهذا التحليل التقليـدي إنما يستند في ذلك إلى قانـون العرض والطلب وعلى ذلك فان حجم المعاملات يعـد وفقا للنظـرية الكمية بمثابة متغير خارجي، بمعنى انه لا يتأثر بالمتغيرات التي تشمل عليها المعادلة، ومن ثم يعامل على انه ثابت، خاصة وان العوامل التي تؤثر في حجم المعاملات هي ثابتة.
ــــــــــــــــــــ
1- ناظم نوري الشمري، النقود و المصارف ، مرجع سابق ، ص179 إلىص180.
2_جان باتست ساي(1767-1832) اقتصادي فرنسي، من رواد المدرسة الكلاسيكية ، صاحب قانون المنافذ، من اشهر كتبه الاقتصاد السياسي، صدر في 1803.
2_ ثبات سرعة دوران النقود: تقوم هذه النظرية على أساس أن سرعة دوران النقود ثابتة على الأقل في المدى القصير، لأنها تحدد بعوامل بطيئة التغير ومستقلة عن كمية النقود، أو بتعبير آخر فافتراض التحليل الكلاسيكي ثبات سـرعة دوران النقود على أساس أن تغيرهـا يرتبط بتغير عوامل أخرى ،منها درجة كثافة السكان، وتطور عادات المعاملات المصرفيـة ومستوى تطور وتقدم الجهاز المصرفي، والأسواق المالية والنقدية، وهذه العوامل كلها لا تتغير عادة في الآجل القصيرة.
3_ارتباط تغير المستوى العام للأسعار بتغير كمية النقود: تقوم النظرية الكمية للنقود على افتراض أساسي مفاده أن أي تغير في كمية النقود المعروضة سيحدث تغير بنفس النسبة والاتجاه في المستوى العام للأسعار(الصورة الجامدة).فـزيادة النقود المعروضـة سيؤدي إلى زيادة مماثلة على المستوى العام للأسعار والعكس صحيح، أي أن هناك علاقة طردية بين كمية النقود ومستوى الأسعار، وذلك بافتراض ثبات حجم المعاملات وسرعة دوران النقود. ومنه ترى النظرية التقليدية للنقود، أن المستـوى العام للأسعار السائـد في فترة زمنية معينة هو نتيجة-وليس سببا- لمقدار وكمية النقود، أي أن نظرية كمية النقود هي دالة ،كمية النقود متغير مستقل، والمستوى العام للأسعار متغير تابع.
المطلب الثاني: معادة التبادل "لفيشر".
إن فكرة النظرية قـديمة، فقد تعرض لبعض عناصرها فلاسفة اليونان و الرومان،كما يمكن تتبع صورها في أراء بعض مفكري وعلماء الإسـلام(المقريزي)، إلا أنها تطـورت اكثر بعـد ثورة الأسعار في القـرن السادس عشـر (قرن 16) –خاصة- بعـد ذلك التـدفق الكبير من المعادن النفيسة (الذهب والفضة) من أمريكا إلى أوروبا، مما دفع بكثير من الاقتصاديين آنذاك إلى البحث في العلاقة بين زيادة كمية النقود وارتفاع الأسعار، نتيجة تدفق الذهب والفضة .
كان "جون بودان" أول من أعطى ملاحظة مفادها أن الزيادة في كمية النقود المتداولة هي سبب ارتفاع الأسعار، ومن ثم الانخفاض في قيمة النقود.
وفي القرن الثامن عشر(ق18) ظهرت نظرية كمية النقود في شكها التقليدي، فكان كل من"دافيد هيوم و كانتيون" قد لاحظا أن حجم المعاملات وسرعة التداول لا تتأثران بتغيرات كمية النقود، وان كمية النقود ومستوى الأسعار يتغيران في نفس الاتجاه. إلا أن أهم من اخذ بالتحليل السابق
واستخدامه في تفسير ظاهرة التضخم التي عرفتها بريطانيا في القرن التاسع عشر(ق19) هو الاقتصادي"دافيد ريكاردوا" الذي كان له دور أساسي في بناء النموذج الفكري التقليدي، حيث توصل في هذا الشان إلى أن قيمة النقود تتناسب عكسيا مع كميتها، باعتبار أن أي زيادة في المعروض النقدي سيؤدي إلى زيادة في المستوى العام للأسعار (1).
إلا أن هذه النظرية أخذت شكلها النهائي والحقيقي من خلال معادلة التبادل "لفيشر" (2)، ومعادلة الأرصدة النقدية "كمبرديج".
1_التعبير الرياضي لمعادلة التبادل: تقـوم نظـرية كمية النقـود على تفسير العـلاقة التناسبية بين كمية النقود وبين المستـوى العام للأسعار،حيث يكون مجمـوع قيـم عمليات المبادلة مساويا للمبالغ التي دفعت في تسويتها.
إذا فنظرية الكمية "لفيشر" هي دالة، المستوى العام للأسعار متغير تابع وكمية النقود متغير مستقل، وبثبات كل من كمية المبادلات وسرعة دوران النقـود، فانه يمكن صياغـة المعادلة رياضيا كما يلي(3):
M.V =T.P ………1
حيث كمية النقود( M)، تشمل كافة أنواع النـقود، ورقية ومعدنيـة، أوراق بنكنوت ونقود مصرفية.
أما سرعة دوران النقود(V) فتعبر عن متوسط عدد المرات التي انتقلت فيها كـل وحدة من وحدات النقد من يد إلى يد أخرى في تسوية المبادلات التجارية والاقتصادية.
في حين حجم المعامـلات( T)، يشمل كافة أنواع المعاملات التي تتم داخل الاقتصاد، وهي عبارة عن الحجم الحقيقي للمبادلات من السلع والخدمات، خلال فترة زمنية معينة.
أما المستوى العام للأسعار( P)، فهو متوسط مرجح لأسعار حجم السلع والخدمات التي بيعت أو اشتريت بالنقود خلال نفس الفترة.
ـــــــــــــــ
1_ناظم نوري الشمري، النقود و المصارف ،مرجع سابق ص276.
2_ارفينج فيشر (Irving Fisher): -1868،1948-اقتصادي أمريكي ، صاحب كتاب نظرية الفائدة عام 1930، يعتبر من الاقتصاديين الأوائل الذين ميزوا بين النقود الورقية والنقود المصرفية ، وبين سرعة دوران كل منها .
3_ محمد زكي شافعي، مقدمة في النقود والبنوك،دار النهضة العربية ، القاهرة، 1964 ،ص413 وما بعدها.
وعليه فان كمية النقود مضروبة في سرعة دورانها تساوي كمية المبادلات مضروبة في المستوى العام للأسعار. إذا كلما تغيرت كمية النقود تغير المستوى العام للأسعار بنفس الاتجاه، شريطة ثبات كل من كمية المبادلات وسرعة دوران النقود.
P = M.V/ T…. 2
2- نقد معادلة التبادل:تعرضت هذه النظرية إلى انتقادات عديدة، يمكن إيجازها فيما يلي:
_ افتراضها دوما ثبات العوامل المحددة لقيمة النقد" باستثناء مستوى الأسعار"، إلا انه إذا رجعنا إلى التجارب الواقعية، نجد عدم صحة ثبات هذه القروض.
_يصعب تصديق ثبات العوامل التي تحدد كمية المبادلات( T) وسرعة دوران النقود(V).
_ إنها لم تأخذ بعين الاعتبار في بناء النظرية النقدية ، متغيرات أخرى هامة كسعر الفائدة، حيث اعتبرت هذه الأخير ظاهرة حقيقية، وليست ظاهرة نقدية، كما هو الشأن في تحليل النظرية النقدية الكينزية.
_يرى" م. فريدمان" أن المعادلة بفروضها السابقة، لا تكون صحيحة إلا عند ثبات كل من(V.T)، وهذا لا يكون إلا عنـد افتـراض وصول المجتمع إلى حالة التشغيل الكامل، كما أن ثبات( V) يعني ثبات العرف التقليـدي لعادات الأفـراد وسلوك المؤسسات المصـرفية، في مثل هذه الظروف فقط يمكن قبول صحة المعادلة.
_تقوم هذه المعادلة على العلاقة الآلية بين كمية النقود ومستوى الأسعار، إلا أن كمية النقود ليست هي العامل الوحيد الذي يؤثر في مستوى الأسعار، فقد ترتفع هذه الأخيرة لأسباب لا علاقة لها بزيادة النقود، كما أن زيادة النقود ليس بالضرورة أن تؤدي إلى ارتفاع الأسعار، خاصة إذا كانت هناك طاقات معطلة.
-إن العلاقة بين كمية النقود وبين مستوى الأسعار ليست مباشرة أو تناسبية فقد أشار الاقتصادي"د.باتنكن(1)"(Patinkin)،في خضم الانتقادات الشـديدة التي تعرضت لها، إلى أن العملية التي تعقب حدوث زيادة في النقـود سـوف تصبح اكثر تعقيـدا مـن العلاقة البسيطة التي تصفها النظرية الكمية، ويذهب بتحليله إلى القـول انه قد تكون هنـاك علاقة عكسية بين كمية النقود والأسعار في بعض الحالات وفق شروط.
_تقوم هذه النظرية على اعتمادها في العلاقة بين قيمة النقد والمتغيرات الاقتصادية الأخرى على التحليل السكوني ، وليس التحليل المتحرك(الديناميكي) .
ــــــــــــــــــ
1- Don Patinkin , La Monnaie , L Intérêt Et Les Prix , P.U.F ,Paris , 1975 .
كما ترى أن حجم الإنتاج يعد مستقلا تماما عن التداول النقدي ،ويرجع هذا الافتراض إلى طبيعة التحليل الكلاسيكي في كونه (تحليل عيني ) بحت ، لأنه أهمل أهمية الجانب النقدي ، على اعتبار أن النقود لا تؤدي إلا وظيفة واحدة كونها وسيط للتبادل (1).
المطلب الثالث: معادلة الأرصدة النقدية(2).
تطورت نظرية كمية النقود التقليدية على يد كل من : "مارشال و روبينسون،ثم بيجو" وهم جميعهم من جامعة "كمبريدج"، لذلك سميت هذه المعادلة، بمعادلة "كمبريدج"، وتسمى بمعادلة الأرصدة النقدية،لأنها تقوم على العلاقة بين الأرصدة النقدية التي يرغب الأفراد الاحتفاظ بها من جهة، وبين الدخول النقدية للأفراد من جهة أخرى.
وتقوم هذه المبادلة على مفهوم معادلة "فيشر" في وجود علاقة مباشرة بين كمية النقود ومستوى الأسعار، إلا أن الاختلاف يرجع إلى أن معادلة "فيشر" قد نظرت إلى الإنفاق من خلال سرعة دوران النقود، أما معادلة الأرصدة النقدية فقد نظرت للإنفاق من خلال الطلب على النقود.
إذا أساس معادلة "كمبريدج" تقوم على العلاقة بين الـرغبة فـي الاحتفاظ بأرصدة نقدية من جهة، والدخل النقدي من جهة أخرى، باعتبار أن التغيرات في رغبة الأفراد أو ميلهم للاحتفاظ بأرصدة نقدية سائلة، يؤدي إلى التأثير على حجم الإنتاج ثم على حجم الدخل ،وأخيرا على المستوى العام للأسعار. فالتأثير على الأسعار من خلال تغيـر كمية النقـود يكون وفـق نظـرية الأرصدة النقدية تأثيرا غير مباشر،وعليه يمكن إعطاء الصيغـة الرياضية لـهذه المعادلة :
بافتراض أن مجموع أفراد المجتمع يحتفظون في فترة زمنية معينة بنسبة من الدخل الوطني الحقيقي، والذي يمكن اصطلاح تسميته بالتفضيل النقدي ونرمز له بالرمز( K ).
ولما كانت العلاقة بين التفضيل النقدي( K) وبين سرعة دوران النقود( V) هي علاقة عكسية ،حيث : K = 1 / V….3
ـــــــــــــــــــــــ
1-راجع هذه الانتقادات بتوسع :-سهير محمود معتوق ، الاتجاهات الحديثة في التحليل النقدي . مرجع سابق، ص 27.
2-أحمد ابو الفتوح على الناقه، نظرية النقود و الاسواق المالية ،مكتبة الاشعاع الفنية ، الاسكندرية ، ط1، 2001، ص102-ص108.
وبتعويض حجم المعاملات( T) بالإنتاج أو الدخل( Y)في المعادلة رقم1 فتصبح معادلة الأرصدة النقدية.
M.V =Y .P…..4
وبمقارنة المعادلة رقم3 بالمعادلة رقم4، فإننا نحصل على الصيغة الرياضية النهائية لمعادلة "كمبريدج".
M/ K = Y .P
أي أن :
M = P( Y .K) …5
حيث (Y) الدخل الحقيقي من عملية الإنتاج للسلع والخدمات في وحدة الزمن.
(K) النسبة التي يرغب الأفراد في الاحتفاظ بها في شكل أرصدة نقدية من اجل الإنفاق.
ومن المعادلة رقم5 نلاحظ أن هناك علاقة طردية بين كمية النقود والمستوى العام للأسعار بشرط ثياب كل من الدخل أو الإنتاج (Y) والتفضيل النقدي( K).
وفي هذا الصدد يقول "مارشال - J . Marshal" :"عند ثبات كافة العوامل فانه سيكون هناك علاقة طردية ومباشرة بين كمية النقود ومستوى الأسعار".
إن التغير الـذي أحدثـه "مارشال" بتعـويضه الإنتاج(الدخل) محـل حجم المعاملات وبتعويض سرعة دوران النقود بالتفضيل النقـدي،لم يكن ليحـدث الشيء الكثـير على النظـرية النقدية التقليدية، حيث بات الاختلاف بين معادلة "كمبريدج"، و معادلة "فيشر" تكمن أساسا في استبدال سرعة دوران النقود بالطلب على النقود(التفضيل النقدي)، ومن ثم فالأول كان يبحث عن أسباب الإنفاق، والثاني كان يبحث عن أسباب الطلب على النقود. وبذلك فان سرعة دوران النقود، والتفضيل النقدي هما بديلان عن بعضهما البعض، وان الطلب على النقود هو مقلوب سرعة دوران التداول، أي أن هناك علاقة عكسية ( K = 1/ V) .
وخلاصة القول أن نظرية الأرصدة حاولت أن تبتعد عن التبسيط و النقد الذي وجه لنظرية معادلة التبادل، إلا أنهالم تسلم هي الأخرى من الانتقادات.
المبحث الثاني: المداخل المختلفة لنظرية الفائدة.
لم تكن نظريات التقليديين واضحة في تناولهم لمفهوم الفائدة، سواء تعلق الأمر بالفرق بينها وبين الربح، أو مدى مشروعيتها أو طبيعة تأثيرها، ناهيك عن كيفيات تحديد هيكل سعر الفائدة.والسبب في ذلك هو أن تحليلهم كان في إطار التحليل الكلاسيكي القائم على المنطلقات والأفكار التي سادت في تلك الفترة.
أعطى ظهور أفكار و أراء المدرسة الكلاسيكية الحديثة، دفعا ومفهوما جديدا وإضافة متميزة عن مفهوم الفائدة، خاصة عند "بون بافريك، كنت فيكسل، أرفينج فيشر ،وج مرشال".
وقبل التطرق للمداخل المختلفة لهؤلاء عن مضمون معدل الفائدة، نرى من الضروري التطرق لمفهوم الفائدة ما قبل الفكر الكلاسيكي، ونقصد بذلك آراء التجاريين الذين كان لهم السبق في تناول هذا الموضوع بنوع من الدراسة والتحليل .
المطلب الأول: الفائدة ما قبل الفكر الكلاسيكي(1).
إن تناولنا لمفهـوم الفائـدة عند التجاريين على الخصوص، كان لاعتبارات علمية ومنهجية اكثر منها محاولة للتعمق والمناقشة في هـذا المفهـوم،خاصة أن هـذه المرحلة كانت نقطة انعطاف مهمة جدا في تحليل مفهوم الفائـدة في الفكر الاقتصادي، نظـرا لبـروز آراء وأفكار مـن قبل التجاريين حاولت تحليل مفهوم الفائدة بعيدا عن التصور الديني وضغط رجال الكنيسة، بل كثيرا ما كانت أراءهم و أفكارهم عن الفائدة منطلقا لبحوث و دراسات رواد المدرسة التقليدية و المدرسة الكلاسيكية الحديثة على السواء (2).
لقد كانت أهـم أهـداف التجاريين تنمية مـوارد الـدولة الاقتصادية وتحقيق معدل سريع للنمو الاقتصادي ، و لتحقيق ذلك كان لابد من تنمية الاستثمار المحلي أو محاولة تشجيع الاستثمار الأجنبي، فهاتين المفردتين تكونان فيما بينهما الاستثمار الكلي.ولكن نجاح هذه السياسة مشروطة بشرطين لا يجب إهمالهما.
_ألا يكون انخفاض سعر الفائدة الوطني كبيرا بحيث يحفز على زيادة في الاستثمار والتوظيف، فيتبعهما ارتفاع في مستوى الأجور، فيزيد ذلك من تكاليف الإنتاج المحلية، مما يكون له آثار عكسية على الميزان التجاري في غير صالح الدولة.
_إن التعامل بسعر فائدة وطني منخفظا جدا، بحيث يضعه في مستوى اقل كثيرا من مستويات أسعار الفائـدة السائدة في البلاد الأجنبية، من شانه أن يؤدي ذلك إلى خروج المعادن النفيسة من الدولة مما يجعل الميزان التجاري غير موافق لمبادئها.
وعليه يمكن أن نشير بإيجاز لأهم تصورات التجاريين لمفهوم الفائدة من خلال المفاهيم التالية:
ـــــــــــــــ
1_نقتصر في بحثنا عن الفائدة ما قبل الفكر الكلاسيكي، على آراء وأفكار التجاريين، دون الخوض فيما قبل ذلك، لأننا سنتعرض لأهم الأفكار عن الفائدة التي سادة القرون الوسطى والقرون القديمة في الفصل الرابع.
2_يقول الأستاذ احمد هني في هذا الصدد:"إن نظرة التجاريين والفيزوقراطيين لا تختلف في مضمونها العام عن نظرة وفكر التقليديين"، راجع :احمد هني ، دروس في التحليل الاقتصادي المعاصر، ص87.
_لم يفترض التجاريون وجود قوى تلقائية تعمل على تعديل سعر الفائدة، وجعله عند المستوى المطلوب. بل على العكس تماما كانوا يرون أن سعر الفائدة المرتفع يعتبر عقبة في سبيل نمو الثروة، بل أدركوا أن سعر الفائدة يتوقف على التفضيل النقدي وعلى كمية النقود.
_ لقد أدرك التجاريون مساوئ زيادة التفضيل النقدي عن الحد اللازم وأوضح الكثير منهم(1) أن الحافز على دعوتهم لزيادة كمية النقود هو رغبتهم في سيادة سعر فائدة منخفض. ومن ثم نجـد دعوتهم لعلاج الربا(الفائدة) هـو الإكثار من كميـة النقود.
وعليه فقـد انتقد الكتاب التجاريين أمثال" مالينـز، كليبر، تشايلد."الفائدة التي تتجاوز الـحد المناسب للتجارة، ويستنتج من ذلك انهم قد دعوا إلى إصدار قانون لتقييد سعر الفائدة بما يتمشى ومصلحة الاقتصاد الوطني.
في حين ذهب رواد المدرسة التجارية الإنجليزية، ومنهم"وليم بيتي، جون لوك، رادلي نورث"،إلى معارضة تقييـد الفائدة معتبرين ذلك أن الفائدة هي ريع النقود، تماما كما للأرض عائد هو ريع الأرض.
لذلك نجد"لوك" كان أول من أوضح العلاقة بين سعر الفائدة وبين كمية النقود، فقد عارض الاقتراح الذي كان يدعـو إلى فرض حد أعلى لسعر الفائدة، وبنى معارضته على عدم نجاح هذه الفكرة في الحياة العملية ومثلها في ذلك تماما مثل تحديد حد أعلى لريع الأرض. ويرى"لوك" أن للنقود قيمتين(2):
_قيمة في الاستعمال والتي تحدد سعر الفائدة، وهي في هذا تشبه الأرض، فدخل الأرض يطلق عليه الريع، ودخل النقود يطلق عليه الفائدة.
_قيمة في التبادل مثلها في ذلك مثل السلع، وقيمتها تتوقف على مدى ندرتها أو وفرتها.
وكان يهدف"لوك" في تحليله هذا الوصول إلى أن خفض سعر الفائدة ليس له أي اثر مباشر على مستوى الأسعار، في حين يؤكد"فورتري"(Fortry) على أهمية وجود سعر منخفض كوسيلة لتنمية الثروة.
أما"ريشارد كانتيلون"، فهو يرى أن زيادة كمية النقود سينتج عنها انخفاض في سعر الفائدة، فهو بذلك يركز على طبيعة القوى الدافعة للتوسع النقدي، فإذا كانت الزيادة في الكتلة النقدية للتوسع النقدي نتيجة لزيادة عـرض النقود فقط، فهذه الفكرة صحيحة، أما إذا كان التوسع النقدي هو استجابة لزيادة
ـــــــــــــــ
1_راجع آراء هؤلاء – بلعزوز بن علي ،دراسة مقارنة للسياسة النقدية والمصرفية بين الفكر الاقتصادي المعاصر و الفكر الاقتصادي الاسلامي، رسالة "ماجستير" في العلوم الاقتصادية ، جامعة الجزائر ، 1993/1994،ص 76وص77.
2_جمال الدين محمد سعيد، النظرية العامة لكينز، مطبعة لجنة البيان العربي، القاهرة، 1963، ص448.
الطلب، كتحسن توقعات رجال الأعمال ، فان سعر الفائدة سيكون مرتفعا(1).
ومنه نرى أن التجاريين انقسموا إلى فئتين،مجموعة من المفكرين أمثال" مالينز و كليبر وغيرهما.." دعو إلى تقييد سعر الفائدة والعمل على تخفيضها إلى مستوى يخدم الاقتصاد الوطني. ومجموعة أخرى من التجاريين خاصة،"جاك لوك، نورث"، فقد عارضا أي قوانين من شانها أن تقيد سعر الفائدة.
وقد حاول بعض الاقتصاديين التقليديين حذ حُذو هؤلاء، وخاصة"هيوم"، رغم انه يعترف بان سعر الفائدة المنخفض في بلد ما يعد أقوى دليل على الازدهار الاقتصادي لهذا البلد.
أما "بنتام"(Bentham) فقد انتقد بشدة "آدم سميث" حيث حبذ سيادة سعر فائدة منخفض، إذ كان يرى أن وضع حد أعلى لسعر الفائدة سوف يترك هامشا بسيطا كمكافأة للأخطار القانونية والاجتماعية، ولا شك أن "بنتام" في انتقاده للقوانين التي تقف لتحد من سعر الفائدة، أن من شانها أن تدفع الفرد لا إلى الاختيار من بين المشروعات الافيد، بل لن يُقدم على القيام بالاستثمار مطلقا.
وفي الأخير حاول رواد الفكر الاقتصادي للمدرسة التجارية الإنجليزية التفرقة بين الفائدة والربا، فالربا هي الفائدة التي تزيد عن الحد، أما الفائدة فهي القدر المعقول والمسموح به، إلا أن هذا المفهوم لم يستطيع أن يبين لنا ما هو هذا الحد الذي يتحقق بعده الربا وكيف يقرر.
أما الاقتصادي الفرنسي"جاك تيرجو"(Turgot)(2)، فقد كانت له نظرة مستقلة عن نظـرة التجاريين،فهو يرى انه مع نمو الرصيد الرأسمالي، فان سعر الفائـدة سيتجه نحـو الانخفاض،وان هـذا الأخير يعتمد على العلاقة بين المدخرات المتراكمة وفرص الاستثمار. وان المشروعات التي يتم تنفيذها،هي تلك المشروعات التي تزيد فيها الأرباح المتوقعة على سعـر الفائدة التجاري،ومع اتجاه الفائدة نحو الانخفاض فان عدد هذه المشروعات سيتجه نحو الارتفاع.
أي أن سعر الفائدة عند"تيرجو" هو المؤشر الذي يقاس به ندرة راس المال. وعليه فقد ارجع التعامل بسعر الفائدة الموجب إلى إنتاجية راس المال ،و المخاطرة، وتكلفة الفرصة البديلة للمقرض، وبعبارة أخرى فهو يرى أن قيمة النقود الحالية هي اكبر من قيمة النقود المستقبلية.وهذه الفكرة بالذات كانت منطلق الفكر الاقتصادي التقليدي-خاصة- "بافريك" الذي اعجب "بتيرجو" ولذلك فهو يرى أن سعر الفائدة لعدة اعتبارات يميل إلى الارتفاع المستمر ومن ثم فمن واجب السلطات النقدية أن تعمل على الحد من هذا الارتفاع و لو أدى ذلك إلى سن التشريعات التي تضع حدا أقصى لسعر الفائدة.
ـــــــــــــــ
1- صقر أحمد صقر، تاريخ النظرية الاقتصادية للإسهامات الكلاسيك (1720-1980)، للمؤلف "جورج نايهانز"المكتبة الأكاديمية ، 1997، ص63.
2_ج تيرجو(J . Turgot)فرنسي (1727-1781).راجـع: P.Guison ,Les Taux D Interet,Dunod,1992,P14 .
المطلب الثاني: مدخل نظرية الفائدة"لبون بافريك"(1).
يعتبر "بافريك" المؤسس الحقيقي لنظرية التفضيل الزمني بحيث معدل الفائدة يتأثر بمدى تضحية الأفراد بدخولهم الحاضرة في مقابل تكوين الاستثمارات في المستقبل.
يبدأ"بافريك" تحليله لنظرية الفائدة بتساؤل، لماذا تبادل كميـة اكبر من وحدة من السلع الاستهلاكية في مقابل وحدة من السلع الحالية؟ وبتعبير آخر، لماذا تكون السلع الحالية اكبر قيمة من السلع المستقبلية؟ وبالتالي كان يبحث"بافريك" في إطار أن الفائدة هي ثمن الزمن، أي أن الفائدة مرتبطة بفكرة الأفضلية للزمن الحاضر-انخفاض قيمة المستقبل-.
ان هذه النظرية ليست بالحديثة حيث تناولها العديد من الكتاب والباحثين الكلاسيك، وحتى ما قبل الفكر الكلاسيكي، ولكن إسهام"بافريك" الأساسية هو إجابته على ضرورة التعامل بسعر فائدة موجب ويرجع سبب ذلك إلى ثلاثة دوافع رئيسية(2):
أ_الـدافع الاقتصادي: السلع الحاضـرة مفضلة على السلع المستقبلية لان هذه الأخيرة لا تسد الحاجة إلا في المستقبل، لكن السلع الحاضرة والتي هـي على شكل نقود تسد الحاجة الحاضرة ويمكن أن تكون احتياطي للحاجات في المستقبل، بالإضافة إلى ذلك فان المـوارد ستكون اقل نـدرة في المستقبل مما هي عليه الآن، فإذا كان الشخص يتوقع زيادة دخله في المستقبل، فانـه سيكون عادة على استعداد لان يدفع كمية اكبر من وحدة نقدية الآن.
ب_الدافع البسيكولوجي:إن عدم القدرة على تصور التقدير المنتظم للحاجات المستقبلية، وخاصة عدم التأكد من مدة الحياة، يدفع الأفراد إلى تقييم الحاضر بأفضل من المستقبل، أي أن انعدام التصور وضعف الإدارة وعدم الاطمئنان إلى الحياة، هو ما يدفع الأفراد إلى تقدير الزمن الحاضر افضل من الزمن المستقبل.
ج_الدافع التكنولوجي: إن السلع الحاضرة لها قيمة حالية تزيد عن قيمة سلع المستقبل، لان السلع، الحاضرة يمكن استعمالها مباشرة أو في الحال في الإنتاج، ومن ثم تسمح بالحصول على اكبر قدر من الإنتاج في الزمن المستقبل.
ـــــــــــــــ
1_هناك عدد من المؤثرات والعوامل التي تكون قد أسهمت في تكوين "بافريك" عن فكرة الفائدة أولا الرغبة في تطبيق أسلوب التحليل الحدي على مشكلة الفائدة،وثانيا الرغبة في إبراز النظريات التقليدية الحديثة،وخاصة عن الإنتاجية الحدية،وثالثا وهو الأهم الرغبة في تحطيم النظرية الماركسية التي كان قد تعاظم تأثيرها بدرجة بالغة خاصة بأوروبا.
2- حسن صالح العناني، معجزة الإسلام في موقفه من الربا،م ،د،ب ،الاقتصاد الإسلامي ،1983ص66.
والحقيقة أن" بافريك "لم يكن مبدعا في إظهار هذه الأسباب لان الكثير من الاقتصاديين قد تعرضوا بشكل مباشر أو غير مباشر إلى هذه العناصر الثلاثة-خاصة- ما جاء في نظـرية"جون راي"(1). ثم إن "بافريك" قد تعرض إلى انتقادات شديدة من قبل عدد كبير من المختصين في مجال الاقتصاد والمال أمثال"مانجر، فيزر وغيرهما… "في اعتماد هذه الاسباب الثلاثة للتعامل بسعر فائدة موجب.
لكن تحليل "بافريك" اصبح مركزا للحوار،ونواة كلاسيكية لاسباب الحصول على سعر فائدة موجب، وذلك لأنه كان افضل ممن سبقوه من الاقتصاديين خاصة الكلاسيك، في تأكيده على نظريته، وقويا في دفاعه عنها، حتى لو كانت الكثير من أفكاره خاطئة. فهو يرى أن السبب(الدافع) الثالث، وحده كفيل بان يكون سببا مستقلا، لان يكون سعر الفائدة موجب، ولكن "فيشر" يرد على ذلك بالقول أن السبب الأول والثاني يؤثران في نفس الوقت على العرض والطلب على القروض، أما السبب الثالث فلا يهتم إلا بالطلب على القروض للإنتاج، وعليه فان الدافع الثالث فلا هو شرط ضروري ولا هو شرط كافي من اجل أن يكون سعر الفائدة فوق الصفر.
والنتيجة أن "بافريك" قد ارجع التعامل بفائدة موجبة إلى دوافع منها اقتصادية، ونفسية وتكنولوجيا، أم عند تحديده لسعر الفائدة فانه يرجعها إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
_المقدار المتوفر من الموارد الطبيعية، فضلا على الأرصدة المالية المتاحة للإقراض.
_عدد المستثمرين(المقترضين) الذين يستعملون الموارد السابقة.
_حالة بيع فائض العائد، حسب درجته الإنتاجية في المستقل بالتوسع المتزايد لطريقة الإنتاج الرأسمالي.
وعليه فالنظرية التي قدمها "بافريك" عن تحديد سعر الفائدة تعتمد على نظريته للإنتاجية الحدية لراس المال، والتي تقوم على أساس، أهمية عنصر الزمن بالنسبة لأسلوب الإنتاج.
المطلب الثالث: مدخل نظرية "فيكسل"(2).
يرى "فيكسل" أن التغير في كمية النقود، سيؤدي إلى التغير في الطلب على السلع والخدمات، ومن ثم يؤدي إلى تغير الأسعار، ولكنه في تحليله لهذه العلاقة يقوم بالربط بين كمية النقود، وسعر الفائدة والثمن، وعليه فهو يرى أن التغير في كمية النقود ليس السبب الوحيد في الاضطرابات الاقتصادية، بل يرجع هذه الاضطرابات بالإضافة إلى عامل تغيرات النقود والدخل والأسعار إلى الاختلاف بين سعر الفائدة الطبيعي(العادي) وسعر الفائدة في السوق(الجاري).
ـــــــــــــــ
1-Mark Blaug ,La Pensée Economique ,O . P .U ,Alger ,1981 , P592-P593 .
2_" فيكسل"(K . Wickesel)، عاش الفترة(1851-1921) باستكهولم ، راجع حياته، أحمد صقر ،ص371-373.
1_العلاقة بين سعر الفائدة الطبيعي وسعر الفائدة السوقي: في نظـر "فيكسل" الفرق بين سعر الفائدة الطبيعي وسعر الفائدة السوقي(الجاري)، يحصل مـن خـلال سلوك الجهاز المصرفي، لأنه هو الذي يستطيع أن يزيد من عرض النقود، وبالتالي عـرض الأرصدة النقدية المتاحة للإقراض ، الشيء الذي ينتج عنه المزيد من منح القروض.
إذا شرط التوازن النقدي عنـد "فيكسل" هو التساوي بين السعر الطبيعي والسعر النقدي (الجاري)، ولكن عمل البنوك والسلطات النقـدية يمكن أن يحـدث سعر فائدة جاري(سوقي) يختلف عن سعر الفائدة الحقيقي المتوقع.
وقد أطلق "فيكسل" على سعر الفائدة النقدي الذي يتساوى مع سعر الفائدة العيني، اسم سعر الفائدة الطبيعي(العادي)(1)، وهو سعر الفائدة النقدي الذي إذا أقرضت المصارف بموجبه لظل المستوى العام للأسعار ثابتا، بحيث لا يوجد ما يدعو هذا المستوى للأسعار إلى الإرتفاع أو الانخفاض، وهو ما يؤدي حتما إلى التوازن في الاقتصاد الوطني.
ولكن السؤال الذي نطرحه والذي يتبادر إلى ذهن كل باحث أو مختص، هو هل تقوم المصارف بالإقراض دائما بهذا السعر الطبيعي للفائدة؟ وبمعنى آخر هل يتساوى سعر الفائدة النقدي الذي تقرض به المصارف مع سعر الفائدة الطبيعي بشكل دائم؟.
في واقع الأمر قد يكون سعر الفائدة النقدي الذي تطبقه المصارف اقل أو اكبر من سعر الفائدة الطبيعي أو آخر. وتلجا المصارف إلى أن يكون هناك اختلاف بين سعر الفائدة النقدي وسعر الفائدة الطبيعي وفقا لسياسة نقدية معينة، ترسمها المصارف لنفسها، وتحددها السلطات النقدية. فغالبا ما يكون الاختلاف بين السعرين ناتجا عن تغييرات سعر الفائدة الطبيعي. وذلك لأسباب لا تتعلق بالمصارف وليس لهذه الأخيرة، أي رأي أو مشاركة فيها، وهو ما يؤدي إلى الاختلال في الاقتصاد الوطني.
ــــــــــــــــــ
1_ فرق "فيكسل" بين سعر الفائـدة الطبيعي(العادي) وسعـر الفائدة السـوقي، فالأول هو السعر الذي يتم تحديده من خلال قياس الفعالية الحدية لراس المال أو للاستثمار، أو بمفهوم آخـر هو الناتج المتـوقع من خلق راس مال جديد، وبالتالي هـو السعـر الذي يعادل الطلب على القـروض مع العـرض مـن الأرصـدة القابلـة للإقراض.
أما سعر الفائـدة النقدي (السوقي) فهو السعر الفعلي المتغير بواسطة البنوك أو السلطات النقـدية، والذي على أساسه يتم تقديم القروض في أي وقت.
2_دور سعر الفائدة في عدم التوازن الاقتصادي: من المعروف أن سعر الفائدةالطبيعي، يتوقف على عدد من العوامل خارجة عن إرادة وسياسة المصارف، فهو يتوقف على حجم الاستثمار، ومستوى الفن الإنتاجي، وعلى عدد السكان الخ…… وعليه يمكن التمييز بين حالتين كنتيجة لعدم التساوي بين سعر الفائدة الطبيعي وسعر الفائدة النقدي.
أ_إذا كان سعر الفائدة النقدي في السوق منخفض عن سعر الفائدة الطبيعي: هذا يعني أن سعر الفائدة النقدي اقل من الإنتاجية الحدية، وهـذا ما يدفع المنـتجين إلى المـزيد من الاستثمار،لان تكلفة القرض هي اقل من العائد المنتظر لراس المال، وبالتالي يحصل المنظمون على أرباح طائلة إذا اقترضوا المزيد من الأموال من المصارف، وأنفقوها في إقامة استثمارات جديدة، ويشجعهم هـذا الوضع على اقتـراض كميات كبيرة من النقود، تفـوق الادخار الفعلي الذي هو بحـوزة المجتمع، فيـزداد الإنتاج والتشغيل، فترتفع الأجـور وترتفع بالتالي أسعار السلع الاستثمارية، فيرتفع المستوى العام للأسعار. ولا يتوقف ارتفاع الأسعار لحد معين، بل يستمر الارتفاع في المستوى العام للأسعار، وهي الظاهرة التي يطلق عليها "فيكسل"(حركة الارتفاع التراكمية)(1).
ب_حالة سعر الفائدة النقدي اكبر من سعر الفائدة الطبيعي: هنا يكون سعر الفائدة النقدي (الجاري) اكبر من الإنتاجية الحدية للاستثمار، وهذا من شانه أن يدفع بالمنظمين ورجال الأعمال إلى الإحجام عن الاستثمارات الجديدة، والتقليل منها نتيجة الخسائر التي قد تلحق بهم نتيجة ارتفاع تكلفة الاقتراض، فينتج عن ذلك انخفاض في الطلب الكلي للاقتصاد الوطني، فتنخفض أسعار السلع الاستثمارية، وتنخفض أجور العمال، ومن ثم يتجه المستوى العام للأسعار إلى الانخفاض، وذلك لفترات متعددة ومستمرة، فيحدث ما يسمى"حركة الانخفاض التراكمية" وبالتالي يحدث عكس ما حدث في الحالة الأولى.
ولكن هل تستمر الحركة التراكمية "لفيكسل" في الارتفاع والانخفاض إلى ما لا نهاية، أم أن هناك عوامل وإجراءات يتم اتخاذها لإيقاف الحركة وإعادة التوازن والأمور إلى نصابها المعتاد؟ .
يرد "فيكسل" على ذلك بالقول أن هناك إجراءات يمكن اتخاذها لوقف الحركة التراكمية(2).
_فإذا حدث وان تعرض الاقتصاد الوطني إلى حركة تراكمية نحو الارتفاع فان البنوك ونتيجة للطلب المتزايد على الأموال القابلة للاقتراض، فإنها سوف تلجا مضطرة إلى رفع سعر الفائدة النقدي حتى تحد من ـــــــــــــــ
1- G.Bramoulle ,D .Augey , Economie Monetaire ,Dalloz ,1998., P297.
2_احمد زهير شامية، النقود والمصارف، دار زهران للنشر عمان ، الأردن ، ط1 ،1993 ،ص140- ص145.
طلب المنظمين ورجال الأعمال للمزيد من القـروض وتتخذ البنوك إجراءات معاكسة لهذا الإجراء في حالة الحركة التراكمية نحو الانخفاض.
وتجدر الإشارة هنا إلى انه نتيجة لارتفاع الأسعار في الـداخل عنها في الخارج، فيزداد الاستيراد من الخارج، ويقل التصدير، فيؤثـر ذلك على الميزان التجاري وميـزان المدفوعات، فيخرج الذهب والعملات الصعبة إلى الخارج، فيضطـر معـه المصـرف المركزي إلى رفع سعر الفائـدة النقدي للعودة إلى التوازن السابق لميزان المدفوعات.
ولكن ليس هناك ما يضمن أن تقتصر المصارف والسلطات النقدية(البنك المركزي) على رفع سعر الفائـدة النقدي إلى الحد الذي يتساوى فيه سعر الفائدة الطبيعي مع سعر الفائدة النقدي، ففي الغالب ما يرتفع هـذا الأخير فتصبح اكبر من سعـر الفائـدة الطبيعي. وهنا تبـدأ الحركة التراكمية نحو الانخفاض فتستمر الحركة الى مدة إلى أن تتـدخل عـوامل أخـرى جديدة لتوقف حركة الانخفاض، وبالتالي الرجوع إلى نقطة التوازن.
وهكذا تنتاب الاقتصاد حركات تراكمية متتالية من ارتفاع الأسعار وانخفاضها وما يترتب عنها من تغيرات في قيمة النقود ارتفاعا وانخفاضا، نتيجة لأثر تغيرات سعر الفائدة النقدي عن سعر الفائدة الطبيعي، وبالتالي هذا التغير في تحليل "فيكسل" هو سبب التغيرات في المستوى العام للأسعار، وبصفة عامة هو سبب التقلبات الاقتصادية.
3_تقييم نظرية "فيكسل": لقد اكمل الاقتصادي السويدي"كنت فيكسل"النظرية التي قدمها "بافريك" حيث اثبت أن الفائدة هي الفرق بين الإنتاجية الحدية للاستخدامات المباشرة وغير مباشرة لعوامل الإنتاج. وهو يرى انه حين تحدث زيادة ما في راس المال، فان مختلف أنواع الاستثمارات الرأسمالية الموجودة لا تزداد بنسبة واحدة، ولكن تتغلب الاستثمارات الأطول نسبيا. وانه من خلال هذا تتم مقاومة الزيادة في الأجور وأسعار الخدمات الأصلية الناتجة عن زيادة راس المال.
وعليـه فان أهم إسهام قـدمه "فيكسل" في نظرية الفائـدة وراس المال، هـو انه حاول أن يبرهن على وجـود علاقة بين معدل الفائدة ومستوى الأسعار، وكان بذلك أول من سلم بالصفة النقـدية لسعر الفائدة(1).
ـــــــــــــــ
1