.
  السياسة النقدية
 
-1- المبحث الأول : السياسة النقدية في النظرية الاقتصادية :
         تتمثل السياسة النقدية في الجزائر في الوقت الراهن، في ضبط العرض و الطلب على النقود بطريقة تسمح بإرساء التوازن، من خلال تسيير سعر الفائدة، الذي هو سعر النقود في السوق النقدي، بما يتماشى مع نمو الناتج الداخلي الخام، بدون تضخم[1].
         و قد تم تحديد الإطار القانوني و المؤسساتي للسياسة النقدية في الجزائر بالقانون 90 – 10 المؤرخ في 14 أفريل سنة 1990. الذي ألغي بالأمر رقم 03 – 11 المؤرخ في 26 أوت سنة 2003. و ينص القانون 90 – 10 في المادة 55 منه[2] على أن مهمة البنك المركزي في مجال النقد و القرض تتمثل في "توفير أفضل الشروط لنمو منتظم للاقتصاد الوطني و الحفاظ عليها بإنماء جميع الطاقات الإنتاجية الوطنية مع السهر على الاستقرار الداخلي و الخارجي للنقد. و لهذا الهدف يكلف بتنظيم الحركة النقدية و يوجه و يراقب بجميع الوسائل الملائمة، توزيع القروض و يسهر على حسن إدارة التعهدات المالية تجاه الخارج و استقرار سوق الصرف".
         غير أن هذا التحديد لأهم الأهداف النهائية للسياسة النقدية لا يحدد ترتيبا للأولويات التي يجب أن تحضى بها، فهو يركز بنفس الأهمية على أهداف الاستقرار الداخلي و الاستقرار الخارجي و التنمية المنتظمة للاقتصاد الوطني. كما أن ذلك القانون لا يحدد بدقة اقتسام المسؤوليات بين البنك المركزي و مجلس النقد و القرض في ميدان سياسة النقد و الصرف و لو أن هذا المشكل، يصبح هينا، لأن حاكم بنك الجزائر هو الذي يرأس مجلس النقد و القرض.
1-1-1-         السياسة النقدية و أهداف السياسة الاقتصادية :
تتمحور أهداف السياسة الاقتصادية حسبما تقدمه الكتب الأكاديمية حول أربعة أهداف يتوقع أن تعمل السلطات النقدية و الجبائية على تحقيقها[3].
1) الاستخدام التام.
2) استقرار الأسعار.
3) معدل نمو مرتفع.
4) توازن ميزان المدفوعات.
         غير أن هذه الأهداف نادرا ما يجهد لتحقيقها بنفس الصرامة و يختلف الالتزام بكل هدف بين البرامج السياسية للأحزاب و خلال الزمن. إذ لم يتم تبني الاستخدام التام و لا النمو كأهداف صريحة قبل الحرب العالمية الثانية. و خلال السبعينات بدأت الريبة تحوم حول الحكمة من جعل النمو كهدف للسياسة الاقتصادية.
         و حتى إذا كان الالتزام بكل هذه الأهداف تاما و صارما فإن الظروف الاقتصادية قد تجعل من تحقيقها كلها دفعة واحدة أمرا صعبا. لأنه قد يكون هناك تعارض بين الأهداف ذاتها. فقد تؤدي محاولة زيادة الاستخدام مثلا، في المدى القصير إلى التضخم، الذي يؤدي بدوره إلى خلق مشاكل في ميزان المدفوعات أو إلى تقلبات غير مرغوب فيها في سعر الصرف. و عندما يكون هناك تضاربا بين الأهداف فإن الحل يتمثل في جعل عدد أدوات السياسة الاقتصادية مساو لعدد الأهداف المراد تحقيقها (Tinbergen).
         و عندما يكون هناك تعارض بين الأهداف فإن الأهداف تكون بدائل : هناك تناوب Trade-off بينهما.
         و إذا مثلت التفضيلات الاجتماعية بين الأهداف المتعارضة بواسطة منحنيات سواء فإنه يمكن تحديد علاقة تناوب تظهر القيود المفروضة على قدرة المجتمع على تحقيق تلك الأهداف و تكون التركيبة المثلى للأهداف محددة بتعظيم المنفعة.
         و قد فسر منحنى Phillips المعدل بطريقة ملائمة[4] كدالة قيد لاتخاذ القرار حول التركيبة المثلى من البطالة و التضخم. و بينما يمكن أن تكون هذه الترجمة مضللة في المدى القصير، خصوصا (لأنها تتجاهل إمكانية تخفيض كل من البطالة و التضخم معا برفع الانتاجية)[5] إلا أنها تبقى مفيدة كطريقة لتحليل القيود القصيرة المدى على تحقيق الأهداف.
         و بعض الأهداف يمكن أن تكون مكملة عوض أن تكون بدائل. فمثلا يمكن أن يكون استقرار الأسعار مساعدا على الاحتفاظ بوضعية معينة لميزان المدفوعات. كما يمكن لبعض الأزواج من الأهداف أن تكون بدائل أو مكملات لبعضها البعض، حسب النظرية التي يتبناها المحلل. و التفاعل بين استقرار الأسعار و النمو ربما هو أكثر العلاقات غموضا من بين قائمة الأهداف المذكورة رغم كون العلاقات بين المراحل الزمنية المتعددة هي كذلك من هذا القبيل : فالدخل الحالي، إذا تحقق بطريقة تضخمية قد يضر بالنمو في المستقبل. لكن إذا كان دخل اليوم يشكل إلى حد بعيد الطلب الاستثماري فإن القدرة الإنتاجية التي تم خلقها تمهد الطريق نحو النمو في المستقبل. كما أن هناك مشكل آخر يتعلق بالعلاقات الترابطية بين الأهداف : إذ أن بعضها قد يكون هدفا فرعيا للآخر.
         فمثلا إذا كان الهدف النهائي هو تعظيم الدخل، و إذا اعتقد أن استقرار الأسعار يشجع على النمو (بتخفيض عدم اليقين الذي يجب أن يتعامل معه المقاولون). فإن استقرار الأسعار ينظر إليه كمساعد على دفع النمو. لكن إذا كان يعتقد أن التضخم يحرض النمو فإن استقرار الأسعار يكون منافيا للنمو. و بذلك فإن الهدفين هما بديلان من وجهة النظر التقنية. لكن أي نقاش حول التناوب بينهما هو في غير محله. و هناك هدف واحد : "المعدل الأمثل للتضخم" يمكن تبينه كهدف بسبب دوره كمساعد للنمو و كهدف مستقل.
         و إذا كان أحد الأهداف هو هدف فرعي لهدف آخر، بينما كان متخذو القرار يعتقدون بأن لهما نفس الأهمية – مثلا الاعتقاد بأن استقرار الأسعار هو الهدف الأولي – فإن ارتكاب مثل هذا الخطأ لن يكون بدون تكلفة. فهو خلط بين الوسائل و الأهداف.
         و لغرض التوضيح نفرض أن هناك وسيلتان M1 و M2 لتحقيق هدف وحيد E. و الهدف قد يكون الدخل الفردي و الوسيلتان : سياسة التشغيل (M1) و سياسة الأسعار (M2). و يمكن اعتبار الوسائل كمدخلات و الهدف كمخرج، و تشبيه العلاقة بينهما بدالة إنتاج كما يبدو من الشكل 1.1[6].
 
 
الشكل 1.1
وسائل و أهداف السياسة الاقتصادية.

M1

 
M1
M*1
A
M*2
M2
E1
E2
 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
كل منحنى من المنحنيات E(E2 …. E2, E1) يمثل مستويات أعلى من الدخل الذي يمكن الوصول إليها بمستويات أعلى من التضخم و مستويات أعلى من التشغيل.
         و بافتراض وجود "موازنة" من الموارد يمكن تكريسها لكلتا الوسيلتين و كذلك توفر المعلومات حول التكاليف النسبية لكلتيهما. فإنه سيكون بالإمكان اتخاذ قرار حول أحسن طريقة لتخصيص الموارد بينهما إما لتصغير تكلفة تحقيق مستوى معين من مستويات الهدف أو تعظيم مستوى E المحقق.
في الشكل 1، يمكن الوصول إلى الوضع الأمثل بإنفاق الموارد على السياستين M1 و M2 إلى حد M*1 و M*2.
لكن إذا اعتبرت إحدى الوسيلتين، على سبيل الخطأ، كهدف في حد ذاتها مثل اعتبار المحافظة على مستوى معين من التشغيل M1 كهدف نهائي، فإن موازنة السياسة الاقتصادية ستستنفذ عند النقطة A، و سينخفض مستوى الدخل الممكن تحقيقه من E2 إلى E1. و لذلك فإن الخلط بين الوسائل و الأهداف هو خلط مكلف اجتماعيا.
إذا ما وجد بين الأهداف التقليدية أن بعضها بدائل لأخرى و أن بعضها مكملات لأهداف أخرى و البعض الآخر أهداف فرعية لأهداف أخرى فإنه من الضروري أخد قرارات استعجالية « ad hoc » حول تلك التي يجب اعتبارها كهدف للسياسة النقدية. و يسيطر على الأدبيات الاقتصادية المتعلقة بهذا الموضوع فرضية اعتبار مستوى الدخل الحقيقي، الهدف الذي يجب السعي إلى تعظيمه. و عند أخده كهدف فإن ذلك يكون متماشيا مع القول بأن الهدف من زيادة الدخل عند مستوى أدنى من مستويات الاستخدام التام هو توسيع الاستخدام و أن النمو، عند مستوى الاستخدام التام يصبح الهدف لكي يمكن تعظيم الدخل (المرادف للرفاهية الاقتصادية ضمنيا) لكل الأعضاء في الاقتصاد.
و هو ما يعني في الواقع، اختيار عدم الدخول في نقاش صريح حول توزيع الدخل الوطني، و بالطبع فإن التبعات التوزيعية تكون موجودة بشكل ضمني في سياسات التشغيل التام و استقرار الأسعار.
كما أن النمو يؤثر على التوزيع : الارتفاع في الدخل لن يوزع بالتساوي. و لذلك فإن التفاعل بين التوزيع و النمو هو أمر بالغ التعقيد، خلال الزمن : معدل النمو يؤثر على الحصص النسبية للأرباح و الأجور التي تؤثر بدورها على الإنتاج و النمو في المستقبل.
إلا أن التعقيد ليس هو سبب كاف لغياب التوزيع الأمثل من قائمة أهداف السياسة الاقتصادية المقبولة كأهداف رئيسية بشكل عام. لكن توزيع الدخل، يفترض بشكل خاص أنه ليس من اختصاص أو انشغالات السلطات النقدية. فالسياسة الجبائية، تعتبر أكثر اهتماما بالتوزيع من خلال الهيكل الضريبي، بينما من المألوف اعتبار السياسة النقدية الفعالة هي حيادية إزاء توزيع الدخل. فالرأي السائد هو أن السياسة النقدية تعمل بطريقة غير ذاتية أو غير شخصية من خلال قوى السوق و بالتالي فهي حيادية في آثارها التوزيعية على مختلف القطاعات. لكن في مراحل التضخم العالي، فإن هذه الفكرة يصعب التمسك بها من طرف الاقتصاديين. فقد أصبح من الواضح تماما أن السياسة النقدية بإمكانها أن تعمل على توفير الدعم النقدي إما للتضخم بالتكاليف أو تضخم أسعار البائعين، و بالتالي فهي تغير في حصة الدخل التي تذهب إلى الأجور و الأرباح كما أنها تغير بشكل معتبر من تركيبة الإنتاج و بالتالي توزيع التشغيل و الأرباح بين الصناعات. و بصفة عامة فإن دور السياسة النقدية في التأثير على التوزيع هو موضوع نادرا ما تناولته الأدبيات رغم شساعتها[7].
2-1-1-         استقلالية السياسة النقدية و الجبائية :
تضاف مشاكل تحديد الأهداف الملائمة إلى واقع كون السياستين النقدية و الجبائية عادة ما تكونان من اختصاص وكالات إدارية (وزارات) منفصلة. و هي لا تطبق دائما بطريقة منسقة و وفق أهداف مشتركة أو متفق عليها. و حتى عندما لا تعمل بصفة منفصلة فإن الاقتصاديين يحللون في أغلب الأحيان سلوكها بصفة منفردة. إن مناقشة الترابطات البينية، بين الأهداف و وجود تكاليف للخلط بين الوسائل و الأهداف يقترحان المعاملة التقليدية للسياسة النقدية و الجبائية كسياستين منفصلتين ليس غير صحيح فقط كتعيين نظري و لكنه إذا ما اتبع من طرف الحكومة سيؤدي إلى وضع أدنى من الوضع الأمثل.
و ما عدا استثناءات، قليلة فإن السياسة النقدية مند نهاية الحرب العالمية الثانية إلى فترة السبعينات على الأقل، كانت تابعة أو فرعية بالنسبة للسياسة الجبائية. جانب كبير من السياسة النقدية كان مكرسا لضمان إمكانية تمويل و انجاز السياسات الجبائية. إذ أن السياسة الاقتصادية، تطورت انطلاقا من تحليل النظرية العامة لكينز، الذي أنزل ضربة قوية بالفكر الكلاسيكي المتمثل في أن التعادل الداخلي internal balance يمكن تحقيقه و المحافظة عليه من خلال العمل الحر لقوى السوق، و حصر تدخل الحكومة في المحافظة على الاقتراب المعقول من شروط المنافسة التامة. و قد تضمنت السياسة الاقتصادية تعهدا من طرف الحكومات الغربية (بعد الحرب العالمية الثانية) بالسعي لتحقيق مستويات تشغيل عالية و مستقرة. و بالإضافة إلى هدف التشغيل التام أصبحت الحكومات مسؤولة عن أهداف النمو الاقتصادي و ميزان المدفوعات. و قد تحقق خلال الفترة (1945 – 1970) أكبر توسع للنشاطات الاقتصادية في العالم الغربي. و أن اختلفت الآراء حول الدور المباشر للسياسات الكينزية في هذا النجاح. لكن أغلبها تتفق على أن هذا الدور كان هاما. و لو بطريقة غير مباشرة على الأقل، بخلقه للمناخ الذي حدث فيه ذلك التوسع.
و قد كان يعتقد في البداية أن وسائل السياسة الاقتصادية يمكن أن تعين (assigned) كالتالي :
- السياسة الجبائية لتحقيق التشغيل التام.
- السياسة النقدية (من خلال سعر فائدة منخفض) لضمان النمو الاقتصادي.
- سياسة الصرف و السياسة التجارية لميزان المدفوعات و قد كان يعتقد، و هو ما حدث فعلا أن مسؤولية الخزينة العمومية تكمن في ضمان مستوى من التشغيل عال و مستقر.
         و أن مسؤولية النظام النقدي و المالي تكمن في توفر موارد كافية تكرس للاستثمار. و مسؤولية صندوق النقد الدولي و الاتفاقيات العامة حول التعريفات و التجارة (GATT) هي ضمان توفر الظروف الدولية الملائمة لتوازن ميزان المدفوعات. لكن العديد من الكتاب مثل Tinbergan و Meade و swan و آخرين أشاروا إلى أن هناك مشاكل يمكن أن تظهر إذا لم تؤخذ كل علاقات الترابط بين الوسائل و الأهداف بعين الاعتبار عند رسم السياسة الاقتصادية لأن ملاحقة هدف من الأهداف يمكن أن يبعد الهدف الآخر عن مرماه (off target)[8].
         و كمثال على ذلك فإن مشاكل ميزان المدفوعات التي نتجت عن ملاحقة هدف التشغيل التام في المملكة المتحدة أدت إلى ممارسة سياسة : التوقيف ثم الاندفاع (stop and go) في السياسة الجبائية : توسيع لتحريض التشغيل التام يتبع بانكماش مفاجئ لحماية ميزان المدفوعات.
         و فضلا عن ذلك فقد لوحظ أن السياسة الاقتصادية إن لم تمارس بحذر فإنها يمكن أن تقوي التقلبات الاقتصادية. إذ حتى مثلا في حالة التوسع الجبائي، البسيطة، للتعامل مع مشكل البطالة، فإنه يمكن أن تمارس تأخرا (Lag) قد يجعلها تلتقي مع الانتعاش الذاتي للاقتصاد و تؤدي إلى رواج و نمو مفرط في التشغيل. و قد كان Freidman (1953) رائدا في الإشارة إلى هذه النقطة، كما أكد عليها مهندس التحكم الكهربائي B. Phillips (1954 – 1957) الذي رأى اعتمادا على التطبيقات الصناعية و الكهربائية لهندسة التحكم أن التحكم في التغذية المرتدة Feed back يمكن أن يكون مخلا بالتوازن إن لم يطبق بحذر.
         و قد دعت الحاجة إلى تجنب هاذين المشكلين السالفي الذكر، إلى اعتماد السياسة الاقتصادية على النماذج الاقتصادية القياسية. غير أن المشكل الأساسي الذي واجه سياسة إعادة الاستقرار الكينزية و الذي يعتبر أكثر أهمية من المشكلين السابقين هو عدم قدرتها على معالجة مشكل التضخم.
         و قد اعترف الاقتصاديون الكنزيون بهذه الصعوبة (Kalecki) لكنهم لم يكونوا ليملكوا علاجا واضحا لها. فالاعتماد على السياسة المركزية للدخول – سواء كانت بشكل إرادي أو اضطراري – اثبت في العديد من الدول أنه أمر صعب التحقيق. لأن سياسات الدخول تواجه مشاكل الإعفاءات، و الحاجة إلى جدب العمال إلى قطاعات معينة بواسطة تقديم أجور أعلى ... لكن الأهم من كل ذلك هو أن هذه السياسة تواجه مشكل مأزق المساجين « Prisoners' dilemma ». إذ بسبب التزام الحكومة بالاستخدام التام فإن من مصلحة أي فريق فردي من الفرق المساهمة في تحديد الأجور أن يخرق سياسة الدخول بنفسه، و يعتمد في نفس الوقت على التزام فريق آخر بها. و حسب التعبير الأمريكي السائد فإن سياسة الدخول لا تتماشى مع الحوافز[9].
         و قد استخدم الاقتصاديون المحافظون مثل Hayek هذه المشكلة التي تواجه السياسات الكينزية كأساس لإطلاق ثورة نقدية مضادة، و ذهب Friedman بهذه الثورة المضادة إلى ابعد ما يكون في خطابه الرئاسي أمام الجمعية الاقتصادية الأمريكية سنة 1968، حيث رأى أنه بدلا من ملاحقة هدف الاستخدام التام، يجب أن تكرس السياسة الاقتصادية الكلية إلى جعل نمو المداخيل النقدية مستقرا، هذا في المقام الأول. و في المقام الثاني فإن هذه السياسة يجب أن تطبق بوسائل نقدية.
         و هو ما يعني ترك القطاع العام حرا في تقسيم المداخيل النقدية بين أسعار منخفضة و استخدام مرتفع أو أسعار مرتفعة و استخدام منخفض، بينما يتم ضمان أن التضخم المتسارع سيواجه بسياسات انكماشية، تخلق تهديدا بالبطالة المحتملة مما يساعد على استقرار الأجور، و يساعد جزئيا على حل مشكل مأزق المساجين السابق التطرق إليه. و ذلك لأن الوفرة الخارجية السالبة (تضخم عال) التي يفرضها أحد الفرق المحددة للأجور على الآخر تصبح مدمجة جزئيا لأن الفريق الأول يواجه الآن تهديد التضخم.
         و قد أيد العديد من الكتاب غير النقديين اقتراح Friedman، بجعل الدخول النقدية مستقرة مثل Meade و Tobin. لكن التفاؤل الذي أبداه Friedman بإمكانية التحكم في التضخم عن طريق التحكم في نمو الدخول النقدية، دون إحداث صعوبات تتمثل في البطالة المرتفعة قد اثبت أنه غير مؤسس. و يبدو أن منظري التوقعات الرشيدة الذين اتبعوه كانوا مخطئين كذلك في اعتقادهم بأن الأطراف المشاركة في تحديد الأجور تفهم عواقب السياسة المضادة للتضخم و تراجع مطالبها بالاتجاه الهبوطي تبعا لذلك.
         إذ ليس فقط لأن الأمر قد يحتاج إلى عدة سنوات من البطالة كي يتم تخفيض التضخم، لكن يبدو كذلك أن المستوى المرتفع و الدائم من البطالة لا بد منه للمحافظة على استقرار مستوى الأسعار. و ذلك لأن الأجور و الأسعار لا تتحدد في الأسواق المرنة كما تقدمه الكتب الجامعية أو في سوق القمح في شيكاغو لكنها تحددها نقابات قوية و شركات احتكارية.
         انطلاقا من نهاية السبعينات، وضع الركود – التضخمي حدا للسياسات الكينزية و لدولة الرفاه. فإلغاء القيود القانونية على النشاطات المالية و النقدية مع صعود أهمية التمويل المباشر عن طريق الأسواق المالية، ثم بعد ذلك توسيع ظاهرة العولمة المالية مند منتصف الثمانينات، أدت كلها إلى ازدياد قوة و أهمية السياسة النقدية. لصالح استقلالية البنوك المركزية مند بداية التسعينات في أوروبا، و قبلها في البلدان الانجلوساكسونية. و أصبح الاستقرار النقدي و استقرار الأسعار على المستوى الوطني، ثم على مستوى المناطق النقدية مثل منطقة الأورو الهدف الأولي.
         كما أن الأزمة الآسيوية و الآثار السلبية للعولمة المالية سارعت على وضع معايير جديدة للحذر (خاصة بالنسبة للنشاطات المصرفية) و مراجعة نسبة كوك و اعتماد نسبة Mac Donnough بعد عقد اتفاقية بازل II سنة 2004. و بذلك فإن دور البنوك المركزية أخد يتسع ليشمل الاستقرار المالي الشامل زيادة على استقرار الأسعار على المستوى الوطني.
         إن التبعية القوية تجاه صادرات المحروقات (التي تشكل حوالي 35% من الناتج الداخلي الخام و 95% من الصادرات و 70% من الإيرادات الضريبية) و تقلب أسعارها في السوق الدولية و عدم اليقين الذي يكتنفها تجعل من إدارة السياسة النقدية في الجزائر أمر صعبا.
         و من الناحية العملية فإن مداخيل العملات الصعبة التي تجنيها صادرات المحروقات تحول و تسلم من قبل سوناطراك إلى بنك الجزائر الذي يجعل بدوره حسابها لدى بنك الجزائر الخارجي دائنا، بالدينار، ثم تحول بعد ذلك أغلب مداخيل الصادرات (65%) إلى الخزينة العمومية كضرائب و رسوم و الباقي (35%) يمثل حصة سوناطراك، و هي تساهم في زيادة عرض النقود إن لم تقم الحكومة بإنفاق حصتها، و بما أن السياسة الجبائية في الجزائر هي سياسة متماشية مع الدورة و حصة كبيرة من الإيرادات تأتي من صادرات المحروقات ذات الطبيعة المتقلبة و تحقن ثانية في الاقتصاد الوطني من خلال النفقات فإن تغير المداخيل من المحروقات يؤدي إلى تقلبات في المخزون النقدي إن لم يكن هناك تعقيم منتظم، و منسق مع الخزينة العمومية.
         إن الجزء الأكبر من الخلق النقدي الناجم عن زيادة مداخيل المحروقات، ينجم عن السياسات الجبائية التوسعية المدعمة بمداخيل أعلى.
         و حتى في حالة وجود سياسات جبائية مضادة للدورة، فإن سيولة النظام المصرفي تكون محل تقلبات كبيرة و تابعة للأسعار الدولية للمحروقات بسبب تأثيرها على ودائع سوناطراك لدى النظام المصرفي.
         و كمثال فقد عانى النظام المصرفي من نقص مزمن في السيولة خلال انهيار سعر البترول من 1998 – 1999 و هو الآن لديه فائض في السيولة بعد عودة الارتفاع في أسعار المحروقات.
         و لذلك فإن التحكم في سيولة البنوك من خلال التدخل في السوق ما بين البنوك[10] هو أولوية الأولويات في السياسة النقدية، للبنك المركزي.
         إن النظام المصرفي في الجزائر، الهش، لا يستطيع كبح الصدمات الخارجية من خلال تقلبات أسعار الفائدة المحددة في السوق. و لذلك فإن التنسيق بين السياسة النقدية و السياسة الجبائية يبقى المفتاح الرئيسي لحل مشكلة تقلب السيولة الناتج عن تقلب مداخيل المحروقات، لأن السلطات النقدية لا تستطيع إدارة فائض السيولة بطريقة فعالة لوحدها. و تعقيم آثار تلك المداخيل على عرض النقود و مستوى الأسعار.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
3-1-1- الأدوات و الأهداف و المؤشرات :
تتكون عناصر السياسة النقدية من الأهداف التي تسعى السلطات النقدية إلى تحقيقها و الأدوات المستخدمة لذلك و الأهداف (التشغيلية أو الوسيطة) و المؤشرات و تتمثل أدوات السياسة النقدية في الأسعار و الكميات التي تقع تحت تحكم السلطات النقدية مثل عناصر ميزانية البنك المركزي و أسعار الخصم، و التي تقوم بتعديل مستوياتها للوصول إلى الأهداف النهائية.
         و بما أن أهداف الاستخدام التام و استقرار الأسعار و حجم و تكوين الإنتاج التي هي محددات لمستوى و توزيع الدخل الحقيقي ليست تحت السيطرة المباشرة للسلطات النقدية، و الأدوات المتوفرة لديها ليست لها سوى علاقة قد تكون ضعيفة و غير مفهومة بالمتغيرات الأهداف فقد جاء تكوين أهداف وسيطية أو تقريبية تستخدم كرابطة بين الأدوات و الأهداف. و يمكن، كذلك تقسيم أدوات السياسة النقدية إلى نوعين :
1- الأدوات المباشرة أو الانتقائية و التي تستهدف أنواعا محددة من الائتمان و الموجهة لقطاع معين أو لغرض معين من أغراض الإنفاق.
2- الأدوات غير المباشرة التي تستهدف تحديد الحجم الكلي للقروض الممنوحة دون التأثير على تخصيصها بين أنواع الاستعمالات المختلفة. و يرى النقديون أن السياسة النقدية، يجب أن تهدف سواءا في اقتصاد مغلق أو اقتصاد مفتوح إلى التحكم في عرض النقود، و ليس إلى التحكم في مستوى و هيكل أسعار الفائدة أو وفرة القروض.
         و في الاقتصاد المفتوح، عندما تكون أسعار الصرف ثابتة، فإنه من غير الممكن التحكم في عرض النقود من طرف السلطات و لذلك فإن السياسة النقدية يجب أن تهدف إلى التحكم في توسيع القرض. أما الرقابة المباشرة فتقترح على أساس أن الأعوان الاقتصادية التي تقترض النقود إنما تفعل ذلك لتمويل الإنفاق. و عندما يتم التحكم في القروض فإنه يمكن، بالتالي التحكم في الطلب الكلي. غير أن التحكم في القرض ليس مثل التحكم في عرض النقود. فإذا كانت البنوك تمتلك احتياطيات أعلى أو أدنى من تلك المطلوبة لاحترام نسبة الودائع إلى الأصول المفروضة عليها فإنها ستحاول توسيع ودائعها، حتى لو فرضت السلطات رقابة على حجم الودائع (و بالتالي على عرض النقود) عن طريق شراء السندات. و هو ما يؤدي إلى انخفاض أسعار الفائدة. و أي زيادة في عرض النقود عما هو مطلوب عند مستويات الدخل و الفائدة السائدة يؤدي إلى اختلال في سوق النقود. و يمكن استرجاع التوازن عندما يتم التخلص من تلك الأرصدة الفائضة من خلال شراء السندات، الإيداع الإضافي لدى مؤسسات الوساطة المالية أو زيادة الإقراض من خلال القنوات غير المراقبة. كل هذه الآثار تؤدي إلى انخفاض أسعار الفائدة و إلى زيادة الطلب الكلي. و لذلك فإن هذا التحليل يقترح أن التحكم في وفرة القرض ليس هو الهدف الملائم للسياسة النقدية. كما أن النقديين يكرهون الرقابة على الإقراض لأنها تعتبر تدخلا في عمل آلية السوق و أنها تؤدي إلى سوء تخصيص للموارد و بالتالي إلى عدم الفعالية. و يعتبر أسلوب اختيار الهدف الوسيط الركيزة الأساسية لأي سياسة نقدية، و تنبع أهمية ذلك الاختيار من أن التعامل يتم في عالم يتميز بعدم اليقين. و في عالم يتميز باليقين فإن الهدف الوسيط يكون منعدم الأهمية، لأن السلطات النقدية تكون على يقين تام بقنوات و حجم أثر أدوات السياسة النقدية على المتغيرات الوسيطية و الهدف النهائي. و على المستوى الاقتصادي الكلي يمكن استخدام نموذج IS-LM لاقتصاد مغلق لتوضيح طبيعة اختيار الهدف الملائم للسياسة الاقتصادية.
         إن الاختيار بين التحكم إما في عرض النقود أو مستوى أسعار الفائدة يتوقف على الأهمية النسبية للاضطرابات العشوائية التي تأتي إما في الجانب النقدي أو الجانب الحقيقي للاقتصاد.
         و قد بين POOLE[11] أنه إذا كان الجانب الحقيقي للاقتصاد هو الأكثر اضطرابا فإن هدف مخزون النقود هو الأفضل، بينما إذا كان الجانب النقدي هو الأكثر اضطرابا فإن سعر الفائدة هو الأفضل كهدف و يمكن الاستعانة بالشكلين (2.1) و (3.1) لتوضيح التحليل الذي أدى إلى هذه النتائج، و حيث يفترض أن هدف السياسة النقدية هو تصغير تباين مستوى الدخل عن مستواه المبتغى y*.
1-3-1-1- الاضطرابات العشوائية النقدية :
         يفترض في هذا التحليل أن عرض النقود ثابت. لكي تكون الانسحابات العشوائية التي تحدث في المنحنى LM ترجع كلية إلى تغيرات غير متوقعة (أو غير منتظرة) في الطلب على النقود. أي أن دالة الطلب على النقود يفترض أن تكون غير مستقرة و يفترض كذلك أن وضعية منحنى IS ثابتة لأن العلاقات السلوكية المميزة (دالتي الاستهلاك و الاستثمار) افترض أنها مستقرة تماما.
         و يبدو ذلك من الشكل (2.1). فمثلا إذا زاد الطلب على النقود بصفة غير متوقعة فإن منحنى LM ينتقل إلى الأعلى و نحو اليسار (إلى LM1) بحيث أنه إذا تم الاحتفاظ بالمخزون النقدي ثابتا، فإن سعر الفائدة سيرتفع نتيجة لانخفاض الدخل من y* إلى y1.
الشكل 2.1 :

y1

 
y*
y2
y
r
r*
LM1
IS
LM
LM2
IS
الاضطرابات العشوائية النقدية :

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
و العكس، إذا انخفض الطلب على النقود. فإن منحنى LM ينتقل إلى الأسفل نحو اليمين إلى LM2. بحيث أن الدخل سيرتفع إلى y2. شرط أن يبقى المخرون النقدي ثابتا.
         إذا في حالة الاضطرابات العشوائية النقدية فإن الدخل يتقلب بين y1 و y2، إذا احتفظ بالمخزون النقدي ثابتا.
         و العكس إذا اتبعت السلطات النقدية سياسة تحاول تثبيت سعر الفائدة عند r*، فإن الدخل يتم تثبيته عند المستوى المرغوب فيه عند y*.
         فمثلا إذا زاد الطلب على النقود بطريقة غير منتظرة فإن السلطات تستطيع أن تزيد من عرض النقود و بالتالي تؤدي إلى جعل عرض النقود داخليا. و الطلب المتزايد على النقود سيواجه و يستقر كل من سعر الفائدة و الدخل عند r* و y*.
         و تكون السياسة العكسية ملائمة في حالة انخفاض في الطلب على النقود. إذ تخفض السلطات النقدية من عرض النقود و يستقر الدخل مرة أخرى عند y* و سعر الفائدة عند r*.
         و رغم أن وضعية IS (في الشكل 2.1) افترض أنها ثابتة، إلا أن نفس النتيجة العامة (أي سعر الفائدة كهدف أفضل من عرض النقود) ستتحقق إذا كان كلا المنحنيين IS و LM عرضة لاضطرابات عشوائية، شرط أن تكون دالة الإنفاق أقل اضطرابا من دالة الطلب على النقود.
2-3-1-1- الاضطرابات العشوائية الحقيقية :
         يبين الشكل (3.1)، على عكس التحليل السابق، أن دالة الطلب على النقود مستقرة (قابلة للتنبؤ) بينما IS خاضع لاضطرابات عشوائية غير معروفة. و تبدو هذه الاضطرابات العشوائية بالانسحابات العشوائية في IS0 إلى IS1 و إلى IS2.
         و يجب أن يلاحظ كذلك أن نفس التحليل صحيح في حالة كون كلا المنحنيين ينتقلان، شرط أن تكون دالة الطلب على النقود أقل اضطرابا من دالة الإنفاق.
         إذا احتفظ بكمية النقود ثابتة فإن التأثير الاستقراري لحركات أسعار الفائدة سيحدد أو يحصر تقلبات الدخل إلى ما بين y1 و y2. و العكس إذا ثبت سعر الفائدة عند r* فإن الدخل سيتقلب إلى حد أكبر أي y0 و y2.
الشكل 3.1 :

r

 
r*
IS1
y0
y1
y*
y2
y3
y
IS2
IS3
الاضطرابات العشوائية الحقيقية

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
النتيجة الأخيرة، تتحقق لأنه، في مواجهة تقلبات الدخل فإن محاولات السلطات لتثبيت سعر الفائدة عند r* ستقود إلى ردود فعل عكسية في عرض النقود. و يبدو ذلك من الشكل (4.1).
 
الشكل 4.1 :
الحالة العامة

y

 
r
r*
IS1
IS0
IS2
LM2
LM0
LM1
 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
لكي يتم تثبيت سعر الفائدة في مواجهة اضطرابات حقيقية توسعية (IS0 و IS2) فإن السلطات يجب أن تزيد في عرض النقود من (LM0 إلى LM2). و العكس في حالة اضطرابات عشوائية انكماشية (IS0 إلى IS1) فإن السلطات يجب أن تخفض من عرض النقود (من LM0 إلى LM1).
         و في الأخير، فإن مدى تغير الدخل بالنسبة للمستوى المرغوب فيه. y*، لا يتعلق فقط على الهدف الملاحق من قبل السلطات النقدية، و لكن بالأميال النسبية لمنحنى IS و LM.
         فمثلا إذا كان منحنى IS عرضة لاضطرابات عشوائية غير معروفة و كانت هناك دالة طلب على النقود مستقرة. (الشكل 3.1). فإنه يصبح أقل خطرا، التحكم في عرض النقود كلما كان منحنى LM أكثر ميلا من منحنى IS. و ذلك لأن تباين الدخل بالنسبة للمستوى المرغوب فيه، سوف ينخفض.
         و هناك صعوبة أخرى تبرز عند ملاحقة سعر الصرف الفائدة كهدف. فسعر الفائدة المناسب، بالنسبة لقرارات الإنفاق و بالتالي لوضعية منحنى IS هو سعر الفائدة الحقيقي. و يعتقد النقديون أن السلطات لا تستطيع أن تحدد، على أكثر تقدير، سوى سعر الفائدة الإسمي. و حسب نظريتهم الخاصة بسعر الفائدة (كظاهرة غير نقدية)، فإنهم يركزون على توقعات الأسعار للتفرقة بين أسعار الفائدة السوقية و أسعار الفائدة الحقيقية. و لا يمكن أن يتساوى سعر الفائدة الحقيقي و الإسمي إلا إذا كان التضخم المتوقع يساوي صفرا. و هذه هي حجة إضافية يقدمها النقديون لتفصيل مخزون النقود كهدف ملائم للسياسة النقدية.
         يستخلص مما سبق أن السلطة النقدية عندما تهدف إلى تحقيق أكبر قدر من الاستقرار الاقتصادي فإن استخدامها للهدف الوسيط يختلف باختلاف مصادر الصدمات الاقتصادية.
3-3-1-1- اختيار المؤشر :
         يجب أن يتميز المؤشر الذي يدل بسرعة و دقة على اتجاه و مدى توغل السياسة النقدية، بصفة عامة بالخصائص التالية :
1-     أن تكون هناك إحصائيات دقيقة و موثوق فيها حوله، و متوفرة بسرعة لدى السلطات.
2-     أن تكون له علاقة متينة و واضحة و مستقرة مع هدف السياسة النقدية. (أي يمتلك درجة ارتباط عالية بالمتغير الهدف).
3-     يجب أن تكون السلطات قادرة على التحكم فيه أي أنه يجب أن يكون متغيرا خارجيا و ليس متغيرا داخليا.
و أحد المؤشرات الممكنة هو عرض النقود ذاته. فالإحصائيات حوله متوفرة على فترات متقطعة، غير أنه، في أي لحظة زمنية قد يكون مستجيبا لتغيرات مسبقة في القاعدة النقدية و لذلك فإنه سيكون مؤشرا ضعيفا على السياسة النقدية الحالية. و يصر النقديون على أن السلطات تستطيع التحكم في عرض النقود بالتحكم في القاعدة النقدية، و عند تحليلهم لسيرورة عرض النقود فإنهم يصفون القاعدة النقدية (أو الاحتياطية) بأنها المؤشر الأكثر ملائمة على السياسة النقدية. و هي تحت تحكم السلطات النقدية. و أي تغير في المخزون الكلي للأصول الاحتياطية سيكون له أثر قوي و قابل للتنبؤ على المخزون النقدي و يدل بالتالي على مدى نفاد السياسة النقدية إلى الهدف.
أما سعر الفائدة فلا يبدو كمؤشر جيد على وضعية السياسة النقدية، لأن أسعار الفائدة العالية أو المنخفضة عادة ما تصاحب سياسات نقدية متشددة أو توسعية. و يرون، على العكس أنه بينما تؤدي الزيادة في معدل النمو النقدي في الأول إلى تخفيض أسعار الفائدة الاسمية، فإن الضغط الهبوطي المبدئي على أسعار الفائدة الاسمية سينعكس. و يحدث ذلك عندما يزيد الإنفاق، بحيث أن التضخم يتسارع مما يجعل توقعات التضخم تراجع صعوديا، مما يجعل سعر الفائدة الاسمي يرتفع. و بالتالي فإن نتيجة السياسة النقدية التوسعية تكون هي تخفيض أسعار الفائدة في المدى القصير و رفعها في المدى الطويل. أما نتيجة السياسة النقدية فستكون العكس تماما.
و لذلك فإن ارتفاع أو انخفاض أسعار الفائدة هو من وجهة نظر النقديين مؤشر مضلل عن اتجاه و تغلغل السياسة النقدية.
و لذلك فإن اختيار المؤشر (المخزون الكلي للاحتياطيات المكونة للقاعدة النقدية الاحتياطية) و الهدف (المخزون النقدي) مثلا يعني أنهما مرتبطان ارتباطا وثيقا.
و يرى النقديون كذلك أن السلطات النقدية يجب أن تتبع قاعدة نقدية « Monetary rule » و أن لا تحاول استخدام سياسة نقدية تقديرية « Discretionary » للتحكم في عرض النقود.
و السياسات النقدية التقديرية (أي وفق ما تراه السلطات مناسبا) هي تلك السياسات المضادة للدورة الاقتصادية، و التي تتغير قوتها حسب الظروف الاقتصادية السائدة. فمثلا إذا ارتفعت البطالة يتم الزيادة في معدل النمو النقدي أما إذا تسارع التضخم فيتم تخفيضه.
و يمكن للسياسة النقدية التقديرية أن تكون سياسة ضبط عنيف Rough tuning أو سياسة ضبط دقيق أو أنيق Fine tuning. و يحدث الضبط العنيف عندما تكون السياسة تتغير، لكن بين الفينة و الفينة فقط و كرد فعل تجاه تغير كبير في التشغيل أو في معدل التضخم. أما الضبط الدقيق فإنه يقتضي محاولة التحكم في الاقتصاد بإحكام، كرد فعل لاختلاف التشغيل أو معدل التضخم عن قيم أهدافها.
و السياسة البديلة للسياسة التقديرية تكمن في الاتفاق على قاعدة يعتقد أنها مثلى في المدى الطويل ثم إتباعها بغض النظر عما تكون عليه الظروف السائدة.
و تتأثر قضية ما إذا كان على السلطات أن تتبع قاعدة نقدية أم تتبنى سياسة نقدية تقديرية، بشكل قاطع بالتأخر الزمني Time lag بين اتخاذ إجراءات السياسة النقدية و بين تأثيراتها على النشاط الاقتصادي.
فإذا كان هذا التأخر الزمني ثابت الطول فإن المشكل يمكن التغلب عليه مبدئيا. بالتنبؤ بالمسار الزمني المستقبلي للدخل و المتغيرات الأخرى.
و يمكن اتخاذ الإجراءات التصحيحية الضرورية بعد السماح بالتأخر الزمني المتضمن في التغيرات النقدية. و يرى النقديون أن هذا التأخر الزمني ليس طويلا فقط بل أنه متغير و هو ما يصعب من مهمة القائمين على السياسة النقدية.
4-1-1- التأخر الزمني :
من بين أولى الدراسات التي أجريت حول التأخر الزمني كانت تلك التي أجراها Friedman سنة 1958[12] ثم بعد ذلك سنة 1969[13] حلل Friedman إحصائيات السلاسل الزمنية و قارن بين معدلات النمو النقدي و بين نقاط الانعطاف في مستوى النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية فوجد على متوسط 18 عشر دورة خالية من الحرب، مند 1870 أن :
1-     قمم (نقاط الانعطاف) معدل التغير في عرض النقود سبقت قمم مستوى النشاط الاقتصادي بمعدل 16 شهرا. و
2-     القيم السفلى لمعدل تغير عرض النقود سبقت القيم الصغرى في مستوى النشاط بمعدل 12 شهرا.
كما وجد أن هناك مقدار كبيرا من التغير بين الدورات الاقتصادية، بانحراف معياري مقداره من 6 إلى 7 أشهر بالنسبة للتأخر الزمني بين نطاق الانعطاف في معدل التغير في عرض النقود و مستوى النشاط الاقتصادي.
و قد انتقدت هذه الدراسات من طرف [14]Culbertson (1960 و 1961) و Kareken و Solow (1963)[15] على كلا الأساسين الإحصائي و المنهجي.
فيما يخص النقطة الأولى أرادوا معرفة ما إذا كان يمكن أن يستدل من العلاقة الموجودة بين النقود و النشاط الاقتصادي على وجود سببية.
أما النقد الإحصائي فقد كان موجها إلى الطريقة التي قاس بها Friedman التأخر الزمني بتحليل نقاط الانعطاف في معدل تغير عرض النقود مقابل مستوى النشاط الاقتصادي. و إعادة إجراء اختبارات باستخدام إحصائيات Friedman، لكن باستخدام معدل تغير لكل من عرض النقود و مستوى النشاط، لم يجد Kareken و Solow أي زيادة منتظمة مع التغيرات النقدية للتغيرات في مستوى النشاط الاقتصادي. و خلصا إلى أن الاثنين يتحركان آنيا تقريبا.
و رغم أن أغلب الدراسات تمت في الولايات المتحدة فقد كانت هناك دراسات حول بلدان أخرى مثل المملكة المتحدة، حيث انتهى Crockett (1970) إلى أن حركات عرض النقود عموما كانت سابقة للحركات في الدخل النقدي. لكن نمط علاقة السبق – التأخر تلك كانت ثنائية النموذج :
فقد وجد Crockett أن هناك ارتباطا قويا بين عرض النقود و الدخل النقدي عندما كان لعرض النقود ريادة قصيرة المدى بالنسبة للدخل النقدي (شهرين إلى ثلاثة أشهر). و أن هناك قمة إضافية في الارتباط، بمدة تأخر زمني أطول كانت فيها تغيرات عرض النقود قائدة للتغيرات في الدخل النقدي بين 11 إلى 12 شهرا.
و رغم الاختلافات حول النتائج المتوصل إليها في مختلف الدراسات التي اعتمدت على إحصائيات و فترات زمنية و بلدان مختلفة، فقد وجدت الدراسات الميدانية أن التغيرات في عرض النقود تسبق التغيرات في الدخل الاسمي لكن طول السبق الزمني يختلف كثيرا.
و قد لخص Friedman سنة 1970 وجهة النظر النقدية بالإعلان عن وجود علاقة قوية بين معدل عرض النقود و بين معدل نمو الدخول النقدية. و في المتوسط، إذا دام التغير في عرض النقود لأكثر من عدة أشهر فإنه سيؤدي إلى تغير في الدخل الاسمي بمقدار 6 إلى 9 مرات فيما بعد. و تظهر الآثار الأولية عادة في الإنتاج الحقيقي مع حدوث تغيرات في الأسعار تظهر من 12 – 18 شهرا بعد الزيادة في معدل التوسع النقدي.
و هذه العلاقات لا يفترض فيها أن تكون دقيقة و الطريقة التي يعمم بها التغير في الدخل النقدي (التوقيت و المدى) بين تغيرات الأسعار و تغيرات الإنتاج تتعلق بالظروف المبدئية التي كانت سائدة وقت حدوث التغير في معدل التوسع النقدي، و من أهمها :
1- مستوى استخدام الموارد.
2- معدل تغير البطالة.
3- معدل التضخم المتوقع.
فمثلا يتوقع أن يكون للتوسع النقدي تأثير أكبر على الإنتاج كلما كان مستوى البطالة عاليا. و كلما كان التضخم موجودا لفترة أطول كلما كان التأخر الزمني بين زيادة أخرى في معدل التوسع النقدي و بين تسارع التضخم أقصر. و هو ما يكون صحيحا خاصة في حالة أسعار الصرف العائمة، حيث يمكن أن تؤدي زيادة التوسع النقدي، تقريبا، إلى انخفاض مباشر في سعر الصرف و بالتالي إلى رفع أسعار الواردات و هو يتسبب بدوره في رفع معدل التضخم بسرعة.
و بسبب طول و تغير فترة التأخر المتضمنة في السياسة النقدية فإن النقديين يرون أنه لا يجب أن يتغير معدل نمو عرض النقود بطريقة تقديرية كرد فعل تجاه التقلبات القصيرة المدى في النشاط الاقتصادي. كما يرون أن نتائج تغير معدل النمو النقدي لا يمكن التنبؤ بها بدقة كافية على ضوء المعرفة الاقتصادية الراهنة كي يمكن السماح بضبط دقيق و أن السياسة النقدية التقديرية (الكينزية) هي سياسة مخلة بالتوازن. و يقدم النقديون حجة أخرى ضد استخدام السياسة النقدية التقديرية فحواها أن السلطات لا تستطيع تثبيت معدل البطالة إلا في المدى القصير فقط.
و عند الانخراط في سياسة نقدية تقديرية فإن السلطات تستطيع أن تخفض مستوى البطالة مؤقتا عندما ترتفع إلى أعلى من المستوى المستهدف الذي تبنته السلطات. و بالمثل فإنه يمكن استخدام انكماش نقدي، تقديري إذا انخفض مستوى البطالة إلى تحت المستوى المستهدف.
و يؤكد النقديون أنه إذا كان المستوى المستهدف للبطالة أدنى من المعدل الطبيعي فإن التضخم المتسارع سيحدث، و يتفاقم هذا المشكل أمام السلطات لأنها في الواقع لا تستطيع أن تتحقق من المعدل الطبيعي. و لذلك حسب رأيهم يكون من الصعب جدا استخدام سياسة تقديرية لضبط الاقتصاد ضبطا دقيقا حتى لو كان هدفها هو المعدل الطبيعي للبطالة.
و يرى النقديون أنه لا يجب تغيير معدل نمو عرض النقود بسرعة، و على السلطات أن تتجنب التدبدبات القوية في السياسة النقدية.
و قد خلص Friedman[16] أن السلطات بتجنبها للتدبدبات القوية في السياسة النقدية يمكنها أن تتجنب كون النقود مصدرا من مصادر الاضطرابات الاقتصادية و اقترح للقيام بالسياسة النقدية إتباع قاعدة نقدية بسيطة.
و قد و فرت أدبيات التوقعات الرشيدة سببا إضافيا لتبني قاعدة نقدية. فالاعتقاد بأن منحنى Phillps يكون عموديا في المدى الطويل يقتضي أن السياسة النقدية التوسعية تستطيع تخفيض البطالة إلى أدنى من المعدل الطبيعي، و ذلك، لأن التضخم الناجم غير متوقع، فقط.
و حالما يصبح متوقعا. فإنه يتم إدماجه في المفاوضات حول الأجور و تعود البطالة إلى المعدل الطبيعي. و الفرضية التي يعتمد عليها هذا التحليل تكمن في كون التوقعات تتكيف مع المعدل الفعلي للتضخم، تدريجيا فقط. و الواقع أن وجود هذه الفجوة الزمنية بين الزيادة في المعدل الفعلي للتضخم و الزيادة في المعدل المتوقع هي التي تسمح بالتخفيض المؤقت في البطالة إلى أقل من المعدل الطبيعي. غير أنه إذا كان تكوين التوقعات يتم بطريقة عقلانية و كان للأعوان الاقتصادية إمكانية الحصول على المعلومات مثل تلك المتاحة للسلطات فإن المعدل المتوقع للتضخم سوف يرتفع فورا كاستجابة لزيادة في معدل التوسع النقدي.
و في هذه الحالة فإن السلطات ستكون غير قادرة على التأثير على الإنتاج الحقيقي بواسطة السياسة النقدية، لأنه لن يكون هناك أي تأخر بين المعدل الفعلي للتضخم و المعدل المتوقع.
و بالنسبة لبعض النقديين فإن هذا التحليل يوفر سببا إضافيا للتخلي عن السياسة المضادة للدورة (الكينزية) و التركيز على توليد معدل ثابت للتوسع النقدي.
أما Fischer (1977) فقد كان يرى أن عقود العمل تكون محددة على فترات زمنية متقطعة و بالتالي فإن التعديل الفوري إلى معدل تضخم متوقع، متزايد مستحيل. و يعتقد أن هذه الصلابة في الأجر النقدي تعطي للسياسة النقدية القدرة على التأثير على الإنتاج لكن بصفة مؤقتة فقط. و تبقى السياسة النقدية عاجزة على التأثير على الظروف الاقتصادية في المدى الطويل.
و زيادة على ذلك فإن التغيرات الجذرية في السياسة النقدية تقود إلى محاولات إعادة التفاوض حول عقود الأجور و بالتالي فإن المعدل الثابت للنمو النقدي، يبقى، يبدو كسياسة معقولة رغم صلابة الأجور النقدية.
كما أن القاعدة النقدية لا تخضع كعلاج لكل الأمراض إلى التقلبات في النشاط الاقتصادي. و من المسلم به أن عدم الاستقرار في الاقتصاد قد ينتج من مصادر أخرى غير التسيير السيئ لعرض النقود، لكن يعتقد أن الاعتماد على قاعدة نقدية يلغي أكبر مصدر للاضطراب أي التغيرات العشوائية في عرض النقود.
و بالإضافة إلى ذلك فإن تبني قاعدة نقدية سيسمح بخلق معدل ذاتي للتعامل مع التقلبات الدورية القصيرة المدى، في الدخل رغم أن هذا يستلزم قبول تغيرات كبيرة في أسعار الفائدة في المدى القصير.
و قد تم اقتراح عدة قواعد، لكن أكثرها شهرة هي تلك التي اقترحها Friedman بالنسبة للولايات المتحدة، حيث اقترح أن يتوسع عرض النقود بمعدل ثابت بين 3 و 5 في المائة سنويا تماشيا مع قدرة الاقتصاد على النمو في المدى الطويل، اعتقادا بأن عرض النقود إذا ما توسع بمثل ذلك المعدل الثابت فإنه سيلبي الطلب المتزايد على النقود الناتج مثلا عن عوامل مثل نمو الإنتاج. مما يضمن استقرار مستوى الأسعار بشكل معقول على عدة عقود في المستقبل.
5-1-1- انتقال آثار السياسة النقدية :
يتمحور النقاش حول السياسة النقدية حول ما يسمى "آلية الانتقال" : أي كيف تؤثر السياسة النقدية على الاقتصاد؟ أو ما هي القنوات التي تعمل من خلالها؟. و تدل الطبيعة الجوهرية لمثل هذه الأسئلة على الاستخدام، أكان بوعي أم بغير وعي لإطار تكون فيه المتغيرات النقدية منفصلة عن الجانب الحقيقي حيث تتحدد متغيرات مثل التشغيل و الإنتاج و الاستهلاك الحقيقي[17].
و في مثل هذا الاقتصاد الثنائي فإن القطاع الحقيقي هو وحده الذي يهم. و لكي يمكن للسياسة النقدية أن تؤثر على أي شيء ذي أهمية، يجب عليها أن تنتقل من القطاع النقدي أو الاسمي أو "غير الحقيقي" إلى القطاع الحقيقي.
و يقود هذا الرأي المتضمن في كل أدبيات السياسة النقدية، إلى التركيز على الأهمية النسبية للروابط المختلفة الموجودة بين القطاعين، كمجال مميز و رئيسي للنزاع بين مختلف المعسكرات المتخاصمة من المنظرين النقديين. و هو يمثل رأيا بديلا لرأي "الهيكل الاقتصادي" الذي لا يوجد فيه مثل هذا الفصل القاطع بين قطاعين نقدي و حقيقي. و يكون تأثير النقود فيه مندمجا في الجانب الحقيقي دون أي فصل ممكن. و هو يتمثل في النموذج الكينزي. و الذي ينبع الاتجاه السائد في النقاش حول كيفية اشتغال السياسة النقدية من التغافل عنه[18].
و تسمح النظرة الثنائية للاقتصاد بشرح لماذا تعتبر آلية الانتقال مرتبطة، بشكل حصري تقريبا، بالعلاقة بين الهدف التقريبي و الهدف النهائي، متجاهلة إمكانية وجود أي علاقة بين الهدف النهائي و وسيلة السياسة النقدية المختارة. و الحقيقة أن الاختيار بين الوسائل يؤثر على كل من نمط انتقال السياسة النقدية و على أهمية و طبيعة النتيجة النهائية. كما أن كلا من الأدوات و الأهداف التقريبية تقع ضمن القطاع النقدي، و الفجوة بين القطاعين هي المهمة حسب وجهة النظر الثنائية الكلاسيكية.
1-5-1-1- آلية الانتقال النقدية :
يقود التركيز الذي يضعه التفكير النقدي على العرض الاسمي للنقود و الطلب على الأرصدة النقدية إلى مقولة مرافقة، تتمثل في صياغة متميزة لآلية الانتقال تصيب التأثيرات النقدية فيها قرارات الإنفاق عبر سيرورة تعديل المحفظة. فعندما تكون الأرصدة الفعلية لا تساوي الأرصدة النقدية المبتغاة (بسبب زيادة في عرض النقود مثلا)، تتغير مخزونات الأصول المالية و غير المالية لإعادة التوازن بين الأرصدة النقدية المبتغاة و الفعلية. و ينظر إلى النقود، في هذه المقاربة كبديل لكل الأصول على حد سواء، أكانت حقيقية أم مالية، و ليس كبديل حصري لفئة صغيرة من الأصول المالية.
أي اختلاف بين الأرصدة النقدية الفعلية و المبتغاة يمكن أن يلغي بالإنفاق على صنف واسع من السلع و الخدمات، بحيث أن الإنفاق لا يكون على الأصول المالية فقط لكن على السلع الدائمة و غير الدائمة كذلك مثل الاستثمار في التعليم أو في سلع الإنتاج الدائمة.
و تدل المتغيرات المشخصة في دالة الطلب على النقود على معدل العائد الذي يمكن كسبه من الاحتفاظ بأصول أخرى غير النقود. و بالتالي فإن المتغيرات تقيس تكلفة فرصة الاحتفاظ بالنقود أي العائد المفقود عندما يتم الاحتفاظ بالنقود بذل الأصول الأخرى.
و حسب هذا التحليل فإن المحتفظين بالنقود سيعدلون محافظهم من الأرصدة النقدية إذا ما تغير معدل عائد شكل من أشكال الاحتفاظ بالثروة.
و لذلك فإن التحليل يتوقع أن الطلب على النقود سينخفض، عند بقاء الأشياء الأخرى ثابتة، إذا ما ارتفع عائد الأصول الأخرى و العكس صحيح.
و لذلك فإن الأفراد سيخصصون الثروة بين الأصول المختلفة للمساواة بين معدلات العائدة الهامشية لتعظيم منفعتهم. فإذا كانت المعدلات الهامشية للعائد غير متساوية فإن إعادة تخصيص الثروة بين الأصول سيحدث.
و بهذا فإن صيرورة تعديل المحفظة تعتبر مركزية لتشخيص آلية الانتقال النقدية. و يمكن توضيح ذلك بفحص آثارها على زيادة في عرض النقود ناتجة عن شراء للسندات الحكومية من خلال عمليات السوق المفتوحة، من طرف السلطات.
يفترض أن تكون الحالة المبدئية، حالة توازن توزع فيها الثروة بين الأصول بحيث تكون معدلات العائد الهامشي متساوية لكي يمكن إقناع أصحاب الثروة بجدوى مبادلة السندات الحكومية مقابل الأرصدة النقدية فإن سعر هذه السندات يجب أن يرتفع و بالتالي فإن العائد يجب أن ينخفض.
و بسبب عمليات السوق المفتوحة فإن محتفظات الجمهور النقدية لن تزداد بالنسبة للمحتفظات من الأصول المالية و الأصول الحقيقية. و بما أن العائد الهامشي لكل أصل سينخفض كلما زادت المحتفظات منه فإن معدل العائد الهامشي للمحتفظات النقدية مقارنة بالأصول الأخرى، سينخفض. و بالتالي فإن محتفظات الجمهور بالأرصدة النقدية ستكون أكبر من مستواها المبتغى. و لكي يمكن إعادة معدلات العائد الهامشية إلى التوازن فإن إعادة تخصيص الثروة ستتم بين الأصول متضمنة تغيرات في مخزونات الأصول المالية و غير المالية.
و بما أن الأرصدة النقدية الفائضة تبادل مقابل أصول مالية و حقيقية فإن أسعارها النسبية ستتغير. أسعار الأصول الحقيقية سترتفع بينما أسعار الفائدة على الأصول المالية ستنخفض.
و قد تم التركيز على دور الأسعار النسبية في آلية الانتقال من قبل Brunner[19] و Metzeler الذين قسما الإنتاج إلى أربعة أصناف : الصنف I سلع الاستهلاك و الأصناف I و II و III سلع رأسمالية. و السلع الرأسمالية من الصنف I هي تلك التي لها أسعار سوق منفصلة بالنسبة للمخزون الموجود (من خلال أسعار الأسهم) و المخزون الجديد. و آلية الانتقال هنا هي مطابقة لآلية الانتقال النيوكنزية.
أما السلع الرأسمالية من الصنف II فلديها سعر وحيد سواء بالنسبة للإنتاج الجديد أو المخزون المتوفر الذي له نفس النوعية (السكن مثلا). الارتفاع في سعر الأصول الموجودة الناتج عن توسع نقدي يؤدي إلى زيادة إنتاج هذه الأصول.
و أخيرا الصنف III من الأصول يتمثل في تلك التي ليس لها هناك سوق. فعلي للأصول الموجودة منها (الجاري استخدامها) مثل بعض السلع الاستهلاكية الدائمة كالغسالات مثلا.
إن إنفاق القطاع الخاص على كلا هاذين النوعين من الأصول و على السلع الاستهلاكية كذلك سيرتفع استجابة للارتفاع في القيمة السوقية للثروة الكلية عقب الارتفاع في سعر السلع الرأسمالية و كذلك السندات المالية (بسبب انخفاض سعر الفائدة).
و تشمل صيرورة تعديل المحفظة هذه طيفا واسعا في الأصول و كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة، فإن الإنفاق سيزداد، على طيف واسع من السلع و الخدمات.
و بينما يرى كل من النقديين و النيوكينزيين أن النبضات النقدية تنتقل إلى الاقتصاد الحقيقي من خلال سيرورة محفظة. فإنهم يختلفون حول فئة الأصول و النفقات المصاحبة، المعتبرة. فالنقديون يركزون على طيف من الأصول أوسع بكثير (أصول مالية و حقيقية) و من النفقات المصاحبة لها، و بالتالي فإنهم يمنحون للنبضات النقدية تأثيرا على الإنفاق الكلي أقوى بكثير.
2-5-1-1- آلية الانتقال الكينزية :
على عكس المدرسة النقدية فإن التحليل الكينزي لآلية الانتقال تكون فيه تأثيرات التغيرات في عرض النقود على الإنفاق تحدث بصفة كلية تقريبا عن طريق التغيرات في أسعار الفائدة على الأصول المالية فاستجابة مثلا لعرض فائض في النقود، فإن الأصول القصيرة المدى السائلة (تلك التي تكون قابلة للتحويل بسهولة إلى نقود) سوف تشترى مما يؤدي إلى ارتفاع سعرها و من ثم إلى انخفاض عائدها و هو ما يؤدي بدوره إلى شراء أصول مالية أقل سيولة. مما يؤدي في الأخير إلى تغير في العوائد على طول مدى السوق المالية. و الاختلاف الناجم بين تكلفة رأس المال و عائد رأس المال يؤدي إلى زيادة الإنفاق الاستثماري و بالتالي إلى زيادة الدخل.
و لتبينها لتفسير يعتمد على تكلفة الاقتراض فإن آلية الانتقال الكينزية تعامل الزيادة في عرض النقود على أنها تؤثر على الاستثمار فقط و ليس على الاستهلاك.
أسعار الفائدة تخفض بالزيادة في المخزون النقدي و بسبب انخفاض تكلفة الاقتراض فإن الطلب على السلع التي تشترى بالقرض سينتعش.
كما يعتقد كذلك أن انتقال النبضات النقدية يتوقف على استجابة فئة صغيرة من أصناف الإنفاق مع تكاليف الاقتراض العالية نسبيا. فالإنفاق على الاستثمار في الأعمال و بناء المساكن و البنية التحتية للسلطات المركزية و المحلية يمكن أن يحرض بسبب تكلفة قناة القرض. و الاستثمار في السلع الاستهلاكية الدائمة (التي عادة ما تشترى بالقرض) قد يزداد كذلك. لكن الطلب على السلع غير الدائمة لن يتأثر مباشرة لأنها لا تشترى عادة بالقرض. و زيادة الإنفاق الاستثماري سوف تؤثر بدورها من خلال المضاعف على الإنفاق الكلي.
أما الكينزيون الجدد (النيوكينزيين) فقد وفروا نظرية عامة لاختيار المحفظة بتوسيع مجال الاختيار من النقود و السندات إلى أكثر من هاذين الأصلين. و في تحليلهم فإنهم ينظرون إلى النقود كشكل من الأشكال العديدة فقط، التي يمكن أن يحتفظ فيها بالثروة. و لا تتضمن الأشكال الأخرى البديلة. السندات فقط (التي تقدم فائدة ثابتة، و تتغير قيمتها الرأسمالية عكسيا مع سعر الفائدة) بل تتضمن كذلك الودائع لدى المؤسسات المالية (التي تقدم فائدة لكن قيمتها الرأسمالية محددة اسميا) و الأسهم (التي تقدم عائدا متغيرا).
و على عكس التحليل الكينزي التقليدي لآلية الانتقال الذي ركز على عائد السند في تحديد تكلفة رأس المال بالنسبة للشركات. فإن TOBIN ركز على الدور الذي يلعبه عائد السهم مقارنة مع سعر عرض رأس المال في التأثير على الاستثمار. و بما أن النقود حسب النظرة الجديدة هي بديل للأصول المالية فإن أي زيادة في عرض النقود ستؤدي بالأفراد إلى التخلص من النقود الفائضة لديهم بشراء تلك الأصول. و هو ما يؤدي إلى رفع أسعار الأصول المالية بما فيها الأسهم و هو ما ينتج عنه اختلاف في القيمة السوقية للأصول (كما يعبر عنها سعر السهم مثلا) و تكلفة إنتاج أصول مماثلة جديدة، و هو ما يزيد من الطلب على التجهيزات الرأسمالية.
فالزيادة في عرض النقود مثلا، تؤدي إلى رفع أسعار الأسهم (أي تخفيض عائد الأسهم المسمى بالعائد على رأس المال) بحيث أن التجهيزات الرأسمالية التي يمكن إعادة إنتاجها × تقيم بـ (DP + ×) أي بأكثر من تكلفة إعادة إنتاجها في سوق الأسهم. و هذه الفجوة ستشجع الاستثمار في التجهيزات الرأسمالية الجديدة. و بذلك فإن سوق الأسهم يلعب دورا حيويا في تحليل Tobin لآلية الانتقال. و قد يكون من المثير للاستغراب أن المقاربة التي تضع ذلك التركيز الكبير على ندمجة القطاع المالي برمته عليها أن تركز بتلك القوة على تلك القناة الخاصة لآلية الانتقال التي تتم عبر السعر السوقي للأسهم (أي على عائد رأس المال).
غير أن هناك قناة أخرى إضافية لآلية الانتقال تتماشى مع التحليل الكينزي و مع التحليل الكينزي الجديد.
فإذا كانت أسواق رأس المال غير تامة المنافسة. فإن التغيرات النقدية حينذاك قد تتسبب في تقنين القرض Credit rationing و الذي سيؤثر بدوره على الطلب الكلي و بالتالي على الإنتاج و التشغيل. و يحدث ذلك لأن أسعار الفائدة لا تتحدد بحرية من خلال العرض و الطلب لكنها تحدد من طرف المؤسسات المالية التي تعمل في الأسواق و بالتالي فإن أسعار الفائدة ستكون ذات استجابة بطيئة تجاه التغيرات التي تحدث في الأوضاع السوقية.
وتكون المؤسسات المالية مجبرة على تقنين القرض عندما يكون تغير السوق توسعيا. و في هذه الحالة فإن كمية القرض المتوفرة ليست محددة بمقدار ما يرغب المقترضون في اقتراضه عند أسعار الفائدة السائدة في السوق لكنها تتحدد بواسطة المقدار الذي يوضع تحت تصرفهم من قبل المؤسسات المالية.
وحسب Bain فإنهمن الممكن قبول آلية الانتقال الكينزية، اعتقادا بأن التغيرات في المخزون النقدي تعمل من خلال الاستثمار فقط، و في نفس الوقت قبول أن العوامل النقدية تهيمن على الدخل الاسمي.                     
و هو ما يمكن أن يحدث عندما يكون الاستثمار له مرونة عالية بالنسبة لسعر الفائدة. و العكس، يمكن الاعتقاد بأن التغيرات في المخزون النقدي تشتغل عبر آلية الانتقال الكينزية مؤثرة على كل من الاستهلاك و الاستثمار مع رفض النظرية الكمية كتفسير للتغيرات الأكثر أهمية الملاحظة على مستوى الدخل الاسمي[20].
و هو ما يحدث عندما ينظر إلى التأثير الكلى للتغيرات في عرض النقود على الاستهلاك والاستثمار على أنها ضئيلة.
و رغم أن المقولتين النقديتين المناقشتين سابقا مرتبطتين إلا أن المتغيرات الهيكلية للنموذج المستخدم لتحليل الاقتصاد و تشخيص النموذج ذاته تعتبر حيوية عند تحليل التغيرات في الدخل الاسمي.
و يمكن توضيح ذلك من خلال النموذج التالي :
                                                                           E = A + Ky – ar            (1.1)….
          
 
حيث أن الإنفاق الكلى يساوى الجزء المستقل من الإنفاق (A) والجزء المتعلق بالدخل ky)) و عنصرا حساسا لسعر الفائدة (ar).
                                                                                     E = y              .... (2.1)
في سوق النقود يكون الطلب على الأرصدة النقدية الحقيقية M/P يتكون من جزء متعلق بالدخل الحقيقي (my) وجزء حساس لسعر الفائدة (br). و r هو سعر الفائدة.
M/p = my - br           ...... (3.1)
و يفترض أن عرض الأرصدة النقدية الاسمية محدد خارجيا   (M/s) عند التوازن يكون
                                                                  M/P = M/s/p           ...... (4.1)
و بإعادة ترتيب هذه العلاقات يمكن الحصول على :
                 y = (1)/[1-(k – (a/b)m)] A + (1)/[m + (b/a)(1-k)] . M/s/P   ... (5.1)[21]
- حسب هذا الإطار المبين بالمعادلة (5.1) يكون الكينزيون التقليديون يتميزون بـ (a) منخفض و(b) مرتفع. و في الحالة التي يكون فيها النسبة a/b صغيرة فان مضاعف الإنفاق المستقل يؤول إلى (1/1-k) بينما يتجه المضاعف النقدي نحو الصفر. الاضطرابات الصادرة من الجانب الحقيقي في الاقتصاد ينظر إليها، بالتالي من قبل الكينزيين التقليديين على أنها تهيمن على التغيرات في الدخل الاسمي.
و من جهة أخرى فان النقديين يمكن أن يكونوا يتميزون بـ (a) عال و (b) منخفض. و في الحالة التي يكون فيها a/b مرتفعا. فإن المعادلة (5.1) تبين أن مضاعف الإنفاق المستقل يؤول إلى الصفر.بينما يؤول المضاعف النقدي إلى (1/m). الاضطرابات ذات المصدر النقدي ينظر إليها من قبل النقديين على أنها تسيطر على ال
 

[1] Bouhouche. M.T. (2004). « La politique monétaire, définition évolution ». MEDIA BANK. N° 74.
[2]و الأمر 03 – 11 في المادة 35 منه، (الفرق بينهما يكمن في تعويض عبارة نمو سريع مكان نمو منتظم في القانون 90 – 10).
[3]قدي. عبد المجيد (2003). المدخل إلى السياسات الاقتصادية الكلية. دراسة تحليلية تقييميه. ديوان المطبوعات الجامعية. الجزائر.
[4]منحنى Phillips الأصلي يحدد العلاقة بين مستوى البطالة u و معدل تغير الأجور (w) حول إلى علاقة بين u و معدل التضخم P. بالإضافة إلى علاقة خطية بين w و P.
[5]هناك حجة مضادة لصحة التناوب بين البطالة و التضخم تكمن في أن التشغيل لا يمكن زيادته بإجراء تضحية حالما يتم توقع التضخم. و قد قدمها Phillips.
[6] De Boissieu, Christian : (1980). « Principes de politique économique » 2ed économica.
[7] Chick. Victoria. (1973). The theory of monetary policy (Lectures in economics). Gray – Mills. Publishers Ltd London.
[8] Durnburg. Thomas. F. of Mc Dougall. D.M (1980). Macroeconomics, the Measurement, analysis and control of aggre gate economic activity Mc Graw – Hill International book company.
[9] not incentive compatible.
[10]يتكون السوق النقدي في الجزائر من قسمين : أ- سوق نقدي ما بين البنوك و هو مفتوح كذلك للمؤسسات المالية غير المصرفية. و ب- سوق سندات الخزينة القصيرة المدى و هو سوق ضيق الحجم.
[11] POOLE, W. (1970). « Optimal choice of Monetary policy instruments in a simple stochastic marco model” Quarterly journal of economics. Vol 84. (Mars).
[12] FRIEDMAN, M. (1958), « The supply of money and changes in prices and output ». Reprinted in the optimum quantity of money and essays (Chicago, Aldine 1969).
[13] Friedman, M. (1961). « The lag effect of monetary policy », J.P.E. Reprinted in optimum quantity of money and other essays. (Chicago, Aldine, 1969).
[14] Culbertson. J. M. (1961). « The lag effect of monetary policy : Reply ». Journal of political economy. Vol 94 October
[15] Kareken. J. and Solow. R.N. (1963) : « Monetary Policy : Lags versus simultaneity » Commission on money and credit : stabilization policies. (engl wood cliffs, NJ prentice/ Hall).
[16] FRIEDMAN. M. (1968) : « The role of monetary policy » American economic review. Vol 69. reprinted in the optimum quantity of money and other essays. (Chicago. Aldine 1969).
[17]تنبع وجهة النظر هذه من "الثنائية الكلاسيكية" التي تقتضي بأن دور النقود يتمثل في تحديد مستوى الأسعار فقط رغم أنه من الناحية الشكلية ليست هناك علاقة بين النماذج المستخدمة لتحليل تأثيرات السياسة النقدية و تلك التي تولد الثنائية.
[18] CHICK. Victoria (1997). The theory of monetary policy.  Back well publishers.
[19] Brunner. K (1971). « A Survey of selected issues in monetary policy ». Revue suisse d’économie politique et de statistique. Vol 107.
[20] Bain. A. D (1970). « The control of the money supply”. Penguin Modern economics. Texts.
[21]يمكن الرجوع إلى Bain. A. D (1970). « The control of the money supply”. Penguin Modern economics. Texts. لتوضيح كيفية الحصول على المعادلة (5).

 
 
  Aujourd'hui sont déjà 13 visiteurs (14 hits) Ici!  
 
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement